الحراك ضرورة خارج الحكومة.. وهذه هي الأسباب!
تشكيل حكومة في لبنان حتميّة مُلِحّة وأمر بحُكم المنتهي في غد غير بعيد. هوّية الوزراء الأكاديميّة والمعرفيّة والإبداعيّة وكفاءاتهم ورؤيويتهم ومهاراتهم في التخطيط وتنفيذ الخطط وشفافيتهم ونظافة كفهم وإنجازاتهم، أمور بمنتهى الأهمّيّة أيضاً. الاستشارات قد تمّت، وهي مدخل دستوري. واحترام نتيجتها مؤشّر نضج وشفافيّة. ودولة الرئيس المكلّف أكاديميّ وصاحب تجربة ونظيف الكف وواعد وصاحب قيم يستحقّ كلّ دعم. ولكنّ ما يهمّنا بشكل رئيس هو الحراك كضمانة للإنقاذ: كيف يستعدّ الحراك-الانتفاضة لمتابعة دوره ما بعد التشكيل حتى وإن أتت الحكومة بكامل مكوّناتها من الكفاءات والخبراء ومن أهل الحراك نفسه؟
المسار المنتِج والحاسم في مستقبل الحراك يكون بمراقبة التأليف وتأكيد ثوابت ومعايير اختيار الوزراء وإعلانها. وبرأيي إنّ دخول ممثّلين باسمِ الحراك إلى الحكومة لا يخدم الحراك، وقد يكون مدخلاً إلى حرقه، وبالتالي مُبرّرًاً لعودة أقوى لِمُمسكين بمفاصل اللعبة المنسوب إليهم فساد ما واستغلال للسلطة. على الحراك أن يطرح ويتمسّك بمعايير يتمّ على أساسها التأليف (الكفاءة في الاختصاص، التاريخ الشخصي في العمل والإنجاز، الاستقلالية، الإبداعيّة، الإنجازات، نظافة اليد….). فيكون في موقف أقوى ممّا هو عليه في حال تسمية كفاءات منه، وذلك منعا لحرق واحتراق. ومن ثمّ يلتزم المثابرة على مراقبة الأداء ووضع المشاريع والخطط والمقترحات وضبط إيقاع المهل الزمنية للإنجاز والضغط لاستصدار القوانين وإلغاء المفخّخ منها ويتابع إنجاز الإصلاحات وعصرنة الدولة وإخراجها من زمن فساد أنهكها . أرى أنّه من الأفضل للحراك-الانتفاضة أن يدخل كحراك مدني الحكومات ويشاركوا في تكوينها بعد الانتخابات النيابية.
الحراك ضرورة ويجب أن يستمر. لذا، يجب التنبّه إلى احتمال كونه مخروق ويُخترق بأكثر من شكل وطريقة، وهناك من أراده ويريده ستارة لإبراء ذمّة لمرتكبين ومستغلّين. الحراك الانتفاضة يافع وشفّاف ويخوض حرباً شعواء ضد خبراء في الحروب المعاصرة: حروب المال، والحروب الاقتصادية والاجتماعيّة، الألاعيب والتركيبات، ولكنّه أبلى حسناً وحقّق منجزات تؤسّس لإنقاذ ونهوض بالدولة والوطن. لقد حاولوا أن ينالوا من الحراك وحرّكوا الشارع، وعبثوا بلعبة الشارعين بما ينتُج عنها من إساءة إلى صورته، إلا أنّ الشرفاء والحالمين بالتغيير وبوطن وحياة كريمة يعرفون الألعاب الخبيثة. والعاقل الرصين لا يقبل ولا يسمح بأن يوضع كلّ تحرّك حصل أو يحصل في خانة الحراك-الانتفاضة. لذا، وجب أن نبلور ونحدّد ونُعلن معاييراً والتزامات مناقبية للسلوك النضالي فيحمل كلّ فعل وتحرّك هذه البصمة، ولا تلتبس هويّة القائمين بأي تحرّك أو قطع لطرق أو رشق للقوى الأمنية بما تُرشَق به. الجيش والقوى الأمنية حماة لحرية التعبير وأبناء وأهل الأنقياء في الحراك، وما هم بأعداء للوطن. وأطرح في الأهداف والمقاربة عدّة ثوابت للحراك:
1- المطالبة المستدامة بوقف الفساد واسترداد الأموال المسلوبة.
2- سلميّة الحراك-الانتفاضة مهما كان الثمن. والحفاظ عليه مُستدَاماً لاعنفيّاً ورافضا لأيّ عنف ولكلّ تسبّب بعنف، إذ نريده شكلاً راقياً ونقلة نوعيّة لأشكال نضال الشعوب من أجل كرامتها وحقوقها، وتتمّ تحرّكاته باستقلالية وإبداعيّةٍ لا تسمح بتعطيل الحياة.
3- التموضع تجاه الحكومة العتيدة، وتجاه أيّة حكومة قادمة، في موقع الرّقابة المُشدَّدة على حركة ماليةِ الدولة وأدائها، وحركة القوانين الضابطة لإنهاء الفساد وبدء استرجاع المال المسلوب ومن ثمّ الذهاب إلى قانون انتخابات عصري يخدم التطلّعات ويُنتج مجلس نواب جديد. ومساندة الحكومة حيث تلتزم بالمشروع الإنقاذي، ومواجهة أي أمر يُعيد شبح الأداء الفاسد.
4- تعزيز نهج اللاطائفية والدولة المدنية برفضٍ عنيد يحرّر المواطنين من عبء التآكل المرضي الذي يحمله استغلال الدين، ويحرّر الطوائف من عبء سياسيين فاسدين أخذوها رهينة مصالحهم. والحذر مِمّن يريد أخذ البلد إلى ما قبل الحراك، وإلى ما قبل "ثمانية" و"أربعة عشرة"، وإلى ما قبل الطائف. والحذر الشديد مِمّن يريد حرباً تدمّر ما بقي، أو ما أعيد بناؤه. وهنا التحدي الذي رفعه الأنقياء من الشباب ومن المخضرمين ومن أناس رائعين أكلتهم الغصّة وصمتوا طويلا، وقد أتوا من كلّ لبنان مُستقلّين أو متمرّدين على أحزابهم ليقولوا: كفى استغلالا، كفى مفساداً.
5- الكرامة قيمة أساسية في كل حركة وحراك وسلوك. ويجب أن يبقى الإنسان وكرامته في أساس وغاية الحراك-الانتفاضة.
6- الالتزام بحقوق الإنسان واحترامها بالكامل، حتى مع خصوم الحراك والمستهدفين منه بسبب فسادهم. فالمستهدفون من الحراك ليسوا مُستهددفين بأشخاصهم ولا بانتماءاتهم السياسية إنّما المستهدف هو سوء أدائهم أو استغلالهم لموقعهم في السلطة من أجل كسب غير أخلاقي وغير مشروعٍ أضرّ بالوطن.
7- لا لكلّ ما يعيق الحياة، خاصة الحياة الاقتصادية والأعمال في البلد .
8- لا للشعارات وللدعوات التي تحرّض الناس على الامتناع عن تسديد متوجبات عليها للدولة، ولا وقف للحياة العامة في البلد.
9- الالتزام بخارطة تحركات ضاغطة ومواعيد لتحقيق مشاريع عن طريق ال"بي. أو. تي"، وإنهاء ملفات عالقة متسببة بهدر المال العام منذ التسعينيات، وفي طليعتها معامل الكهرباء، ومن ثمّ المرافئ والمطار، والبنى التحتية، بناء المستشفيات والمدارس، السجون، ….
10- التنبّه من استغلال الحراك، فالحراك مستهدف، وللكثيرين الكثيرين مصلحة في فشله وحرفه عن مساره، باستثناء الفقراء والأنقياء. وهناك من أهل الفساد من يهمه أن تذهب الأمور إلى مزيد من الفقر والإفقار لأنهم بثرواتهم، المنهوب منها والموجود خارج البلد، سيعودون إلى مزيد من التملك: التملك برقاب الفقراء والتملك واستملاك ما للقلة الباقية من الطبقة الوسطى بعد إفقارها. كما أنّ الحراك مستهدف من دول لها مصالح بوجوده أو بفشله. وهو مستهدف أيضا في رغبة البعض أن يجعلوا منه غطاءا لفشلهم أو تلاعبهم، وهو من كلّ ذاك بريء.
11- لا للطروحات الدخيلة أو السلوكات المنقولة عن بعض الانتفاضات أو الثورات، لأنّنا نريد الحراك-الانتفاضة حركة بنّاءة وإيجابيّة لا تُفخّخ مستقبلها ولا تسقط في أفخاخ خفيّة أو مُخفاة. إنّ ما يصحّ لظروف وبلد آخر قد لا يصحّ لدينا.
12- استشراف نتائج الأفعال والتحرّكات باستمرار. فالذهاب مثلاً لإعلان ما يُسمّى بالعصيان المدني أو العصيان الضريبي لا يخدم الحراك في غاياته وأهدافه. المستهدف بالعصيان الضريبي في قُطبٍ مخفية هو حرمان الخزينة من آخر قطرات ماء تسمح بالحفاظ على استمرار الدولة ونهوضها في حال نجاح الحراك أو فشله. حرمان الدولة من مداخيلها فساد بمستوى التهرّب الضريبي وتهريب البضائع. ووقف مداخيل الدولة يعني التأسيس لدولة تقوم بالقطاع الخاص، وبالخصخصة، والمستفيد من ذلك هم كبار أصحاب المال. والخصخصة طريق إلى تحقيق مُنى وغايات الراغبين في الإمساك بالثروات. الدولة هي الملاذ والطريق لحماية الناس عبر إعادة توزيع الثروات، وعبر الضرائب الموجودة لتخدم المجتمع وتؤمّن احتياجات المواطن إنْ لا تُسرق، ولا تُنهب، والدولة هي الطريق إلى العدالة الاجتماعية وحماية العقد الاجتماعي، والعصيان الضريبي مقدّمة لضرب الدولة. وإلى القائلين بالعصيان الضريبي مُتذرّعين بأنّ الضرائب تُسرق نقول: المعالجة هي في وقف السرقة، وإلا أنتم تستخدمون السرقة حجّة لعصيان يمهّد ويُبرّر ضربة قاضية للدولة، وضربة حظ عارم لكبار المستثمرين، وتبرئة لذمة الفاسدين الذين يحملون بعض المتحركين إلى كفر بمفاهيم الدولة وإلى سقوط في فخ تسليم مقدرات الوطن والدولة إلى أقل من واحد بالعشرة آلاف من كبار المتمولين . على القائلين بالعصيان الضريبي أن يتوجهوا إلى إنهاء الفساد وإخراج الفاسدين الذين يثبُت فسادهم، والوقوف في وجه الخصخصة.
13- مع الالتزام بحماية القطاع العام، يلتزم الحراك بالنظام الاقتصادي الحر وبحماية القطاع المصرفي وإخراج أداء هذا القطاع من كمّاشات وحسابات سياسية.
14- نشر ثقافة التعاضد الاقتصادي والاجتماعي وحماية الاقتصاد الوطني. والإفادة من خبرات اللبنانين الناجحين في الداخل والخارج لوضع تصورات اقتصادية وخطط متكاملة تسمح بنمو مستدام للدولة ويمهّد الطريق لتمكين الدولة من أن تكون دولة حماية اجتماعية بامتياز وفاعلية.
15- عدم اقتصار الحراك على الداخل والضغط بطرق وأساليب فاعلة وإبداعيّة في اتجاه الدول صاحبة المصالح في لبنان، لوقف الضغط الاقتصادي على أهل وطن ناضلوا من أجل عيش كريم وانتشروا في العالم علامات نجاح.
16- التربية والثقافة عنوانان سياديّان وبأهمّية الأمن والاقتصاد في التأسيس لما بعد الانتفاضة ويطول كلامنا في دور التربية والثقافة ونتركه لحينه. إنّما المستعجل في هذا الموضوع التأكيد على أنّ ما هو أهمّ من "إنقاذ العام الدراسي" حماية المضامين التربوية. فتردّي المستوى التربوي طعنة أخرى ألمّت وتلمّ بالوطن: منذ متى نسمح أو نقبل في أن يكون لبنان في أدنى درجات السلّم في مجال التعليم بحسب إحدى الإحصائيّات الدوليّة.
17- الحذر من الهدايا المُسمّمة التي ستُعرض كحلول لاحقة وأخطرها الخصخصة وبيع المؤسسات العامة المنتِجة. والعمل على إعادة الشفافية إلى المؤسسات العامّة ونشر بياناتتها المالية باستمرار بما يتيح الرقابة المشدّدة وحماية هذه المؤسسات من الفساد، فيستعيد القطاع العام دوره وإنتاجيّته في المجالات المختلفة. هناك من يتربّص بتلك المؤسسسات ويريد لها المزيد من الإنهاك حتى تموت وتنتهي إليه بأبخس الأسعار. سُرقت أموالكم، ومزيد من السعي إلى إفقاركم ، وإنهاككم، كي تستجيروا بهم مجددا ويشترون منكم عقارات وممتلكات وأرض ميتة الأسعار، ومؤسسات عامّة موجودة لخدمتكم، وتُخرَجون بالضربة القاضية من أحلامكم وحقوقكم.
18- الرقابة الذاتية المبكرة والمستدامة خطوة احترازية مُلزمة للحراك، فهناك بذور تنمو في بعض كواليسه، وهي من النوع السام والضد إنساني والنقيضة للنقاء والفاشلة في أكثر من مجال، واتي تكرّس نفسها في أذهان اليافعين، وهي مشروع تكرار الفساد بالقوة.
19- الاحتكام إلى القضاء النزيه في الأحكام في المسائل المختلفة وبشكل رئيس إثبات الفساد والمحاسبة وتطوير القوانين ومؤسسات المحاسبة وفرض إيقاع سريع لإنهاء الملفات والبت بشان المخالفات.
20- الالتزام بالدستور وآلياته، والعمل النضالي باستمرار تحت سقف القانون.
21- الالتصاق بالجيش وتقدير دوره الحامي لحرية التعبير فجيش لبنان لا يُرشَق والقوى الأمنية إلا بالورود والعطر.
22- استقطاب الأنقياء الموجوعين على كلّ مساحة الوطن، فهؤلاء متضامنون بقلب مع الحراك-الانتفاضة ويريدونه ناجحاً في هدفه الرّئيس: وقف الفساد واستعادة المال المنهوب بأسرع وقت. وشركاؤنا في الوجع هؤلاء مُحجمون عن انضمام إلى الحراك لخشيتهم من استهداف مُبيّت خفيّ أو خافٍ عن تصوّر أنقياء الحراك وخارجٍ عن إرادتهم في أمور سياسية. باستقطاب شركائنا الموجوعين مثلنا، والرافضين للفساد مثلنا، يحقّق الحراكُ نقلة نوعيّة وفاعليّة غير مسبوقة، ويكون بحقّ سلطة الشعب بأغلبيّته المطلقة، ويُعزّز فرص نجاح الإنقاذ مع حكومة عتيدة، ويحسم الأمور ويُسرِّع الإنجازات إطلاقاً لحركة الوزارات بشفافيّة ونقاء، وإسهاماً في إعادة الثقة وتحفيزٍ إيجابيّ لدورة الحياة.
اللبنانيّون كلّ اللبنانيين، يعرف الشرفاء الأنقياء أنّ الحراك في نقائه واستمراريته فرصة للمواطنين والوطن. وهو فرصة الحكومة نفسها وأية حكومة شفافة نظيفة. وليعلم المناورون إنّ صلف التذاكي كما الاستغباء قاتل. والرّهان على إنهاك الحراك لا يخدم حتى مصلحة المراهنين. فبادروا. ليس لدينا ترف الوقت. وليعرف بعض الهواة والباحثين عن دور في الحراك أنّ أسوأ الإنهاك قد يأتي من داخل. التعاضد والتضامن الكاملين مع الحراك-الانتفاضة المسؤول، والسلمي، والباحث عن إنصاف اللبنانيين- كل اللبنانيين حتمية لخلاص الوطن ومصلحة لكل الشرفاء والأنقياء من فقراء وطبقة وسطى وحتى أثرياء. والمال المسلوب مال كلّ اللبنانيين واستعادته تكون لكل الوطن. والفساد أضرّ بكلّ اللبنانيين الأنقياء والمقهورين والمغلوبين على أمرهم. لقد أضرّ حتى بمن لجأ منهم إلى جلاده واستجار به. أهل الحراك والناظرون إليه المدعوون إلى تضامن سريع، وتفاعل بإيجابيّة ومرونة وحكمة مع قيام حكومة، ألا تشعرون بأنّ فساداً يستمرّ وهندساتٍ دواهي تدور في كواليس اللاعبين. الحراك-الانتفاضة ورقة قوّة في حسن احتضانه وفي نقائه واستمراره بحكمة. نحن الحل في تضامن وتعاضد إنساني وقيمي. فالوطن ناتج جميل لنقاء المواطنة.
*عميد سابق في الجامعة اللبنانية