د. عدنان عويّد – خاص الحوارنيوز
عندما تُحَرِكُ مسألةُ حجابِ فتاةٍ دولة بكاملها، فهذا يعني، أن هناك خللاً كبيراً، سببه ليس حجاب تلك الفتاة، وإنما أسباب داخلية وخارجية عدة، وبالتالي اتُخِذَتْ مسألة الحجاب ذريعة كي تنتفض شريحة من الشعب الإيراني على سياسة دولته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة بشقيها الداخليّ والخارجيّ، وهذا ما حدث في إيران مؤخرا.
على العموم، ليس موضوع دراستنا هذه هو السياسة الإيرانيّة وما جرى ويجري في إيران من صراع بين تيارات مختلفة من بنية النظام نفسه ومن خارج هذه البنية، بقدر ما يهمنا الموقف الخاطئ، أو الملتبس من مسألة الحجاب، وهو موقف من فسّر وأوّل العقيدة الإسلاميّة هنا.
مفهوم الحجاب في النص المقدس:
من خلال النصوص المقدسة التي وردت في الكتب المقدسة (التوراة والإنجيل والقرآن)، يتبين لنا بأن الحجاب جاء في سياقه اللغوي أو الدلاليّ، على أنه الْسَتِر، فحجب الشيء أي ستره.
الحجاب في التّوراة:
لقد وردَتْ كلمةُ “حجاب/ الحجاب” ثلاثاً وعشرين مرّة في “التّوراة” بمعنى واحد وهو “السّتار”، وفي مجال واحد وهو “خيمة الاجتماع” المقدّسة وما في داخلها.
أمّا بالنّسبة إلى غطاء الرّأس في “التوراة” فلا يُوجد تشريع صريح في هذا الشّأن، ويبدو ارتداؤه أقرب إلى العادات البدويّة من كونه وصيّة دينيّة. (1)، عدا طائفة الحريديم وهم يتبنون التفاسير الأكثر غلواً في التراث الديني، والتشدد في أداء العبادات والطقوس الدينية، ولباس نسائهن أقرب إلى لبس نساء الدواعش.
أما الحجاب في الإنجيل:
فلم يختلفِ الأمرُ كثيراً في “الإنجيل” عنه في “التوراة”، حيث وردَتْ كلمةُ “حجاب/ الحجاب” ستّ مرَّات فقط، ولا تخرج عن كونها بمعنى “الستار”. (2).
وبالنّسبة إلى غطاء الرّأس في “الإنجيل” فلم يرد أيّ قول عن “المسيح” في هذا الشّأن، في الوقت الذي أكّد “بولس” في رسائله صلاةَ المرأةِ ورأسُها مُغَطّى، واصفاً عدم تغطية الرّأس بالأمر المشين: “وَأَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَو تَتَنَبَّأُ وَرَأْسُهَا غَيْرُ مُغُطَّى، فَتَشِينُ رَأْسَهَا”. ثمّ سأل مستنكراً: “احْكُمُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: هَلْ يَلِيقُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُصَلِّيَ إِلَى اللهِ وَهِيَ غَيْرُ مُغَطَّاةٍ؟”. (3).
أما الحجاب في القرآن وهو موضوع بحثنا:
فالموضوع يتّسع أكثر، ويصبح البحث فيه رحباً وغنيّاً، لأنّه من الموضوعات الحسّاسة التي تمّ ويتمّ تناولها قديماً وحديثاً. فكثيراً ما نسمع في الإعلام، ونقرأ في الكتب، وأحياناً في اللافتات والملصقات العامّة، هذه العبارة: “الحجابُ فرضٌ في القرآنِ”، وتكونُ هذه العبارة السّلاحَ الذي يستعمله أيُّ داعيةٍ لغطاء الرّأس “الحجاب” ضدّ أيّ شخصٍ من أنصار الرّأي الآخر المخالف.
وبما أنّ “القرآنَ” يُعْتَبَرُ الدّستورُ الأوّل الذي يلجأ إليه المسلمون لاستنباط الشّرائع والسّلوك الحياتيّ وبخاصة القِيَم الأخلاقيّة، فمن المحبّذ أنْ نقوم بجولة في سُوَر “القرآن” ودلالاته، نبحث من خلالها عن كلمة “حِجَاب” ومعانيها، ونتأكّد من كونها جاءتْ بمعنى “غطاء الرّأس” الذي ترتديه غالبيّة النّساء المُسْلمات، أولا، مستعينين بفهم السِّياق أوّلاً، وبتفسير الحافظ “ابن كثير” الدّمشقيّ ثانياً.
لقد وردتْ كلمةُ “حجاب” سبعَ مرّاتٍ في “القرآنِ”، ستّ مرّات في حالة التّنكير (حِجَاب)، ومرّة واحدة في حالة التّعريف بالألف واللام (الحِجَاب)، وهذا ترتيب ورودها حسب التّرتيب القرآنيّ المعروف للسُّوَر:
1- {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ}. “سورة الأعراف 46”. إن هذا النّصُّ يتحدّث عن “الفاصلِ” بينَ أهلِ الجنّةِ وبين أهلِ النّارِ، والخطاب الذي سيدور بينهما. فـ“الحجاب” هنا معناه “السُّور”. (4).
2- {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}. “سورة الإسراء 45”. وهذا النّصُّ يخاطب نبيّ الإسلام، وقد جاءتْ كلمةُ “الحجاب” هنا بمعنى “مانع وحائل وساتر”. (5).
3- {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا}. “سورة مريم 17”. وهذا النّصُّ تحدّث هنا عن “مريم”، و”الحجاب” بمعنى “السّاتر”، وكما ورد في التّفسير: “استترتْ منهم وتوارتْ”. (6).
4- {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}. “سورة الأحزاب 53 “. (7).
إذاً هكذا ورد ذكرُ “الحِجَاب” في “القرآن” كما بينا أعلاه، ولكن ليس بالمعنى الذي يتبادرُ إلى ذهن السّامع في عصرنا هذا. فيبدو لنا أنّ كلمة “حِجَاب” أصابها تغيّر في الدلالة، فصارتْ تعني “غطاء الرّأس والشّعر”، والجلباب والدرع وغطاء الوجه وكل ما لا يتفق مع معانيها في “القرآن”. فكثيرٌ من المفاهيمِ الملتبِسةِ والمُصطلحات المبهمَةِ رسَخَتْ في الذّاكرة الجمعيّة، فصارتْ أشبه بالحقائق المطلقة وتحولت إلى تقليد لا يجوزّ المسّ بها، أو تحوّلَتْ مع الزّمن إلى “حقيقة أو فرض من الدّين بالضّرورة”، كلّ مَن ينتقدُها يصبحُ خارجَ الملّة والجماعة. و كلمة “حِجَاب”، التي تُطْلَق على “غطاء الرّأس” الذي ترتديه نساءٌ مسلمات كثيرات وقسمٌ من النّساء المسيحيّات إلى وقتٍ قريب في بعض الكنائس، بالإضافة إلى النّساء في بعض الطّوائف اليهوديّة المتزمّة، (الحرديم)، هو من هذه المفاهيم التي تحولت إلى فرض دينيّ، مقدس لا يمكن إلغاؤه أو نقده أو التعديل فيه. وعلى هذا الأساس جاء الحجاب اصطلاحاً في الفهم التراثيّ الإسلاميّ بأنه اللباس الساتر لجميع بدن المرأة وزينتها، بما يمنع الأجانب عنها من رؤية شيء من بدنها أو زينتها التي تتزين بها، فإن كانت المرأة في بيتها فيكون الحجاب من وراء الـجُدران، وإن كانت في مواجهة رجل أجنبيّ عنها داخل البيت أو خارجه فيكون باللباس الشرعيّ، والحجاب هو أحد الفروض الواجبة على المرأة في الشريعة الإسلاميّة متى ما بلغت الفتاة سن التكليف أي السن الذي ترى فيه الأنثى الحيض، وتبلغ فيه مبلغ النساء. كما جاء في حديث النبي : «يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ»، (8).
شروط الحجاب الشرعي:
إن المتتبع لآراء الفقها في مسألة حجاب المرأة، يجد أن هناك اجتماع عدة شروط في اللباس الشرعيّ للمرأة، وهي: استيعاب جميع بدن المرأة،. وأن لا يكون زينة في نفسه. وأن يكون غير شفاف أو فضفاض. أو معطر. وأن لا يشبه لباس الرجال. وأن لا يكون لباس شهرة؛ ويُقصد به “أي ما اشتهر بين الناس أن من يلبس هذا الثوب يكون متكبراً أو زاهداً”. (9). وبذلك تواتر عمل المسلمين كافة على مر العصور وأجمعوا على أن المرأة إذا كشفت ما وجب عليها ستره، فقد ارتكبت محرماً يجب عليها التوبة إلى الله تعالى منه.
الوضع القيمي أو الأخلاقي للمرأة في الجاهلية:
تذكر المصادر التاريخيّة إن المرأة في الجاهلية كانت تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب شعرها لتغري الرجال، وكنَّ يسدلن الْخِمْرَ من ورائهن فتبقى صدورُهنّ مكشوفة عارية، فأُمرت المؤمنات بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار، وأمرن بألاّ يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال، فيطمع الذي في قلبه مرض. وعلى هذا الأساس وغيره كما سنبين لا حقاً فرض الحجاب إذ تذكر (الآية 59 من سورة الأحزاب)، الغرض من الحجاب، وهو: ﴿ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾، وذلك لحماية المؤمنات وصيانتهن وإظهار عفافهن ومنع الفساق من التعرض لهن. وفي قول تعالى: ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾. فيه إشارة إلى وجود صلة بين ما تراه العين وما يتعلق به القلب، فالعين طريق الهوى والنظر بريد الشهوة، فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب، كما فُرض الحجاب على المرأة لأنها محل لنظر الرجال الذين أمروا أيضا في الإسلام بغض أبصارهم، ولكي لا يكون تعامل الرجل الأجنبي مع المرأة بحسب شكلها وجمالها، وإنما يكون بحسب إنسانيتها وأخلاقها. (10).
النص المقدس الذي حدد ضرورة التحجب أو التستر للمؤمنات وإشكاليّة أسباب النزول ومن المعني به :
إن من يتابع النصوص المقدسة التي بينت ضرورة ستر المرأة وبخاص زوجات الرسول والنساء المؤمنات، والتي اعتمد عليها كثيراً من قبل الفقهاء ورجال الدين تاريخيّاً يجدها في قوله تعالى مخاطباً الرسول:
1- {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} سورة النور.
2- (أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا). [الأحزاب: 59].
وفي الحديث الشريف:
1- في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ»، رواه أبو داود.
إن من ينظر إلى مضامين الآيات والأحاديث يجد أن الهدف أو الدافع الأساس من الدعوة إلى ارتداء الحجاب من قبل المرأة المسلمة موضوع بحثنا هنا هو العامل (الجنسي). فالمرأة المسلمة المؤمنة، يجب أن تكون محصنة في هذا الاتجاه، وتحصينها بالنسبة للحجاب يأتي في سترها بلباس كنا قد أشرنا إلى طبيعته أعلاه عند حديثنا عن شروط اللباس الشرعي كما حدده الفقهاء. أما عن مسألة تحديد ما يجب أن تبديه النساء من جسدهن وزينتهن فقد جرت عليهما خلافات كثيرة بين المهتمين بهذا الشأن من الفقهاء ورجال الدين قديما أو حديثاً. فإذا كان الاتفاق قد تحقق على ستر الجيوب والفروج، فإن الخلاف وقع حول ولم يزل على اعتبار كشف الوجه واليدين و حتى الصوت حرام أو مباح. وهذا الخلاف ينطبق على حليّ المرأة وما يجب أن يظهر منه، وكذلك على لباسها وشكله ونوعه وغير ذلك.. (11).
أما بالنسبة لأسباب النزول الأخرى غير السبب الذي جئنا عليه أعلاه، وهل الحجاب يشمل الإماء والجواري أم لا، فقد جرى عليها خلاف كبير، ربما جاء هذا الخلاف برأيي بسبب انتشار الفتوحات وانتشار ظاهرة الجواري وما ملكت الأيمان من جهة، وبسبب عدم معرفة السبب الرئيس لنزول الآيات التي تدعوا إلى ضرورة ستر المرأة المؤمنة. ثم إلى مسألة تفسير وتأويل الكثير من الآيات الأخرى المتعلقة بمن هو المؤمن وغير ذلك. ثم إلى بعد المسافة الزمنيّة بين نزول النص وعصر التدوين الذي امتد إلى ما يقارب قرن ونصف من الزمن، وأخيراً الأخذ بعموم اللفظ وترك خصوص السبب في تفسير وتأويل النص المقدس.
دعونا نتابع هناء بعض تلك الرؤى التاريخيّة والفقهيّة المتعلقة بأسباب نزول آيات أمر الرسول بفرض الحجاب على نسائه ونساء المؤمنين.
أولاً: أخرج ابن مردويه عن “علي بن أبي طالب ” قال: مرّ رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط (صُدم به) فشق أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه أمري؟ فأتاه فقصّ عليه قصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (هذا عقوبة ذنبك) وأنزل الله: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ…} “الآية 30 -31. سورة النور”. (12).
ثانياً: وروى ابن كثير، عن مقاتل بن حيان، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: بلغنا – والله أعلم- أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدّث أن “أسماء بنت مرثد” كانت في نخل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير مؤتزرات فيبدو ما في أرجلهن يعني الخلاخل، ويبدوا صدروهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا؟ فأنزل الله في ذلك: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ…} الآية. 30 -31. سورة النور. (13).
ثالثاً: ورد في تفسير القمّي أنَّ سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾، هو أنّ النّساء كُنَّ يخرجن إلى المسجد يُصلِّين خلف رسول الله (ص)، وإذا كان بالليل خرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة يقعد الشبَّان لهنّ في طريقهنّ فيؤذينهنّ ويتعرّضون لهنّ فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ…﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾. (14).
رابعاً: وذكر أيضًا أنَّ ابن جرير أخرج عن أبي صالح قال: “قدم النّبيّ (ص) المدينة على غير منزل فكان نساء النّبيّ (ص) وغيرهنّ إذا كان الليل خرجن يقضين حوائجهنّ، وكان رجال يجلسون على الطّريق للغزل فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ﴾ الآية يعني بالجلباب حتّى تُعرف الأمة من الحُرَّة (15).
خامساً: أخرج ابن جرير في تفسيره (22|46) وابن مردويه عن عطية بن سعد العوفي (ضعيف) عن ابن عباس في الآية، قال: «كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهم من جلابيبهن. وإدناء الجلباب أن تُقَنْعَ وتشده على جبينها».
سادساً: وروى السّيوطيّ في الدرّ المنثور بسندٍ إلى أبي مالك قال: “كان نساء النّبيّ (ص) يخرجن بالليل لحاجتهنّ وكان ناس من المنافقين يتعرّضون لهنّ فقيل ذلك للمنافقين فقالوا إنَّما نفعله بالإماء فنزلت الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ…﴾ فأمر بذلك حتّى عُرفوا من الإماء (16).
من خلال هذه الروايات يتبين لنا أن عدم اتفاق على أسباب نزول النص القرآني في مسألة الحجاب، بل أن الاتفاق جاء مؤخرا على ضرورة لبس الحجاب بالنسبة للمرأة، وقد اختلف الفقهاء ما بين المتشددين وأهل الإسلام المعتدل في سلوك المرأة وحياتها ومكانتها الاجتماعيّة، على نوع وشكل هذا الحجاب، فالحجاب الذي دعا إليه المتصوفة والدواعش والوهابيّة الذين أقروا حجب المرأة كليّاً حتى صوتها، هو غيره عند أهل الإسلام المعتدل الذين أخذوا بالحجاب الذي يسمح بظهر الوجه واليدين والصوت.
هذا وعلينا أن نشير هنا إلى مسألة وضع النساء من الإماء بالنسبة للحرات، فإشكاليّة سبب ما جاء في سورتيّ النور والأحزاب حول الحجاب، وهل المقصود منه تمييز نساء النَّبي وسائر نساء المؤمنين عن (الإماء)؟ فقد قال بعض الفقهاء إِنَّ الإسلام لا يصون نساءً دون نساءِ – وحاشى لله أن ينزّل دينًا كهذا-؟!. فهناك آراء تقول لا فرق بين نساء الرسول والحرات من المسلمات المؤمنات والإماء المؤمنات. حيث جاء في الأثر:
أخبرنا محمد بن عمر (الواقدي) حدثنا أبو جعفر الرازي وهشيم (ثقة) عن حصين (ثقة) عن أبي مالك، ثم بمثل قوله السابق.
قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ…﴾. – سورة النور آية رقم 30-31.
وبهذه الآية وغيرها يتبيّن أنّه لا يصحّ القول بأنّ الله تعالى قد صان نساءً دون نساءٍ حتَّى بناءً على التّفسير الذي استظهره بعض المُفسّرين من الآيةِ مَوردَ البَحثِ، وذلك لأنَّه لا يصحّ اجتزاء القرآن واستنتاج معنىً لبعض آياته بقطع النّظر عن آياته الأخرى.
فمثلا قوله تعالى من سورة الممتحنة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. – سورة الممتحنة آية رقم 12.
فالخطاب بالنّهي عن السّرقة والزّنا وقتل الأولاد متوجّه في هذه الآية إلى عموم المؤمنات بغض النظر عن كونهن حرات أو إماء إذ يقول “محمد الأمين الشنقيطي”: “وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ تَعَرُّضَ الْفُسَّاقِ لِلْإِمَاءِ جَائِزٌ بل هُوَ حَرَامٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَعَرِّضِينَ لَهُنَّ مِنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَض… وَفِي الْجُمْلَةِ فَلَا إِشْكَالَ فِي أَمْرِ الْحَرَائِرِ بِمُخَالَفَةِ زِيِّ الْإِمَاءِ لِيَهَابَهُنَّ الْفُسَّاقُ، وَدَفْعُ ضَرَرِ الْفُسَّاقِ عَنِ الْإِمَاءِ لَازِمٌ، وَلَهُ أَسْبَابٌ أُخَرَ لَيْسَ مِنْهَا إِدْنَاءُ الْجَلَابِيبِ” [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 6/245]. (17).
وهؤلاء أيضاً على ما يبدوا معتمدين في حكمهم هذا على قرينة أخرى يُمكن أن تُساهم في تأكيد ما استظهروه وهو أنَّ آية سورة الأحزاب التي أمر بها الرسول أن يدعو زوجاته للتحجب قد وقعت في سياق آيةٍ سبقتها كانت متصدّية للتشنيع على من يؤذي المؤمنين والمؤمنات وذلك بإطلاقه يشمل العبيد المؤمنين والإماء المؤمنات.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾. سورة الأحزاب آية رقم 58. (5).
ملاك القول:
قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويكفوها عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم، ولا ينظروا إلا إلى ما أبيح لهم النظر إليه، وأن يحفظوا فروجهم عن الزنى ويستروا عوراتهم حتى لا يراها أحد، فإن ذلك أطهر لقلوبهم من دنس الريبة، وأنقى لها وأحفظ من الوقوع في الفجور، فالنظرة تزرع في القلب الشهوة، ورب شهوة أورثت حزناً طويلاً، فإن وقع البصر على شيء من المحرمات من غير قصد، فليصرفوا أبصارهم عنه سريعاً ولا يديموا النظر، ولا يرددوه إلى النساء، ولا ينظروا بملء أعينهم فإن الله رقيب عليهم مطلع على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور} [غافر: 19].
ثم أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج وزادهنّ في التكليف على الرجال بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فإن ذلك أولى بهن وأجمل إلا إذا ظهرت هذه الزينة بدون قصد ولا نية سيئة فلا إثم عليهن فالله غفور رحيم.
ملاحظة:
مع تطور الحياة، ودخول المرأة عالم العمل، واستقلالها اقتصاديّا، وتعلمها ونيلها الشهادات العلميّة بكل الاختصاصات، ومعرفة الكثير منهن بعض علوم الدين، أخذت مسألة الحجاب توجهاً آخر أصبح قريباً لفهم تغطية جيوبهن بخمارهن. كما إن الحجاب أصبح عند الكثيرات من الفتيات تقليداً أكثر منه إيماناً عقيدياً، حيث رحنا نجد أن الحجاب تحول إلى مسألة ديكور للمرأة، فهي ترتديه بما يتناسب ولباسها ولون حذائها، وأصبح له أشكال مختلفة من حيث التصميم، وكثيراً ما يرافقه قميص وبنطال جنز (ضيقين) إلى درجة إبراز مفاتن المرأة، فيكون الإغراء هنا والشهوة الجنسيّة أكثر حضورا لمن ينظر إليهن.
*كاتب وباحث من سوريّة.
الهوامش:
(1). (راجع موقع الناس نيوز – هل وردَ ذِكرُ الحِجَاب في التوراة والإنجيل والقرآن؟ – إلي جرجس.). (وكذلك راجعوا موقع: “منتديات اتباع المرسلين”. الحجاب والنقاب في الكتاب المقدس.)
(2)، (الموقع نفسه – الناس انيوز).
(3) – (رسالة بولس الرّسول إلى أهل كورنثوس أصحاح11، عدد 5 و13.). ( للاستزادة (راجع موقع (منتديات اتباع المرسلين). الحجاب والنقاب في الكتاب المقدس.).
(4) – (تفسير ابن كثير، ج 3 ص 417).
(5) – (ابن كثير، ج 5 ص 82).
(6) – (تفسير ابن كثير، ج 5 ص 419).
(7) – (المصدر في التّفسير: ابن كثير الدّمشقيّ، تفسير القرآن العظيم، الجزء الرّابع . الرّياض : دار طيبة للنشر . ط 2. ).
(8) – (رواه أبو داود.).
(9) – (راجع موقع إسلام أون لاين – لباس المرأة بين الشرع والتقليد.).
(10) – ويكيبيديا.
(11) – (للاستزادة في معرفة طبيعة الخلافات حول هذه المسألة راجع موقع القرآن – تفسير الطبري – عن الخلافات في تحديد ولا يبدين رينتهم.).
(12) – (موقع المرسال – تفسير ” وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن “كتابة: ايمان سامي آخر تحديث: 12 ديسمبر 2019 ، ).
(13) – (موقع المرسال. المرجع نفسه.).
(14) – (موقع المرسال – المرجع نفسه.).
(15) – (الدر المنثور- جلال الدين السيوطي- ج5 ص221، جامع البيان- إبن جرير الطبري- ج22 ص58.).
(16) – (الدر المنثور- جلال الدين السيوطي- ج5 ص221.).
(17) – (للاستزادة في مسألة حجاب الإماء راجع موقع السبيل – هل فرض الحجاب لتمييز الحرة عن الأمة؟.).