رأي
السعادة الضائعة بين لهاث المال وبريق المناصب (أسامة مشيمش)

د.أسامة مشيمش – الحوارنيوز
في عالم اليوم، أصبح السعي وراء المال والمناصب العليا مسألة شبه مقدسة. تتسابق الأمم والأفراد على اعتلاء سلم النجاح المهني والاقتصادي، وكأن الحياة لا معنى لها خارج دائرة الإنجازات المادية والمراكز الاجتماعية المرموقة. لكن، في خضم هذا اللهاث المستمر، تُطرح تساؤلات حقيقية عن الثمن الذي يُدفع في المقابل: أين ذهبت السعادة؟ وأين اختفى المعنى؟
اللافت أن الإنسان، في بدايات حياته، يملك ما لا يقدّر بثمن: الصحة والوقت. شاب في مقتبل العمر قد لا يملك مالًا، لكنه يملك الطاقة، والحلم، والفراغ الذي يملأه بالأمل والتجارب. لكنّ هذا الرصيد لا يُستثمر غالبًا في التأمل أو بناء الذات، بل يُستهلك سريعًا في التأسيس للمرحلة التالية: مرحلة الكدح من أجل المال.
في منتصف العمر، يبلغ الفرد ذروة قوته الإنتاجية. يصبح لديه مالٌ وصحة، لكن الوقت يبدأ في التضاؤل. تتزاحم المواعيد، وتتعدد المسؤوليات، ويكاد لا يجد متسعًا لنفسه أو لأسرته. السعادة هنا تصبح مؤجلة، مرتبطة بعطلة قادمة، أو ترقية منتظرة، أو تقاعد مُريح. لكنه لا يدرك أن اللحظة الوحيدة التي نملكها حقًا هي الآن.
ثم تأتي المرحلة الأخيرة من العمر، حين يكون لدى الإنسان المال والوقت، لكنه يفتقد أهم ما يجعله قادرًا على التمتع بهما: الصحة. هنا تتجلى مفارقة الحياة الكبرى. يتحول المال إلى وسيلة للعلاج لا للترف، ويغدو الوقت عبئًا نفسيًا حين يُقضى في الوحدة أو الندم أو إعادة حسابات لم تعد تغير من الواقع شيئًا.
السؤال الذي يطرح نفسه: أين أخطأنا؟ ولماذا فقدنا الطريق إلى السعادة؟
الجواب يكمن في التحول الخطير الذي طرأ على مفهوم النجاح والسعادة في العصر الحديث. تم استبدال السعادة بمعايير مادية، وتحولت البصيرة إلى غشاوة، يرى من خلالها الإنسان كل شيء إلا جوهر الحياة. الإعلام، وسائل التواصل، نماذج “النجاح” الحديثة، كلها تسوّق لفكرة أن الحياة الجيدة مرهونة بالحسابات البنكية، والمنازل الفخمة، والألقاب اللامعة. لكن هذه المفاهيم، وإن أبهرتنا، لا تمنحنا المعنى.
إن السعادة، بكل بساطة، ليست شيئًا يُشترى. وليست بالضرورة مرتبطة بالثراء أو المناصب. هي شعور داخلي بالرضا، ينبع من اتساق الإنسان مع نفسه، من تواصله مع محيطه، ومن قدرته على عيش اللحظة بتوازن. السعادة تكمن في العلاقات الإنسانية الحقيقية، في الصحة الجيدة، في وقت يُقضى مع الأسرة، في عمل يحبه الإنسان، في تأمل لحظة غروب، أو حتى في كوب قهوة مع صديق قديم.
المفارقة أن كثيرًا من الناس لا يدركون هذه الحقيقة إلا بعد فوات الأوان. حين يتقدم بهم العمر، أو يُصابون بمرض، أو يفقدون عزيزًا، تبدأ الرؤية في الاتضاح، وتنكشف الغشاوة. يتمنون حينها لو عادوا للوراء قليلاً، ليعانقوا أبناءهم أكثر، أو ليعيشوا ببساطة دون قلق دائم على المستقبل.
لكن هل نحن مضطرون لانتظار الصدمة كي نفيق؟
الوعي هو الخطوة الأولى. أن نسأل أنفسنا بصدق: لماذا نركض؟ وما الذي نريده حقًا؟ هل نحن نعيش كما نحب، أم كما يُفترض بنا أن نعيش؟ أن نُعيد ترتيب أولوياتنا، ونتذكر أن المال وسيلة لا غاية، وأن المناصب تُترك خلفنا في نهاية المطاف، بينما ما يبقى هو الأثر الطيب، والذكريات الجميلة، والرضا الداخلي.
ختامًا، نظرية العيش بسعادة ليست معادلة معقدة، بل هي ببساطة: أن نعرف ما يكفينا، وألا نبيع أيامنا مقابل أوهام لا تُشبع، وأن نحافظ على صحتنا الجسدية والنفسية، وأن نعيش الحياة كما هي، لا كما يُراد لنا أن نعيشها.
السعادة الحقيقية تبدأ حين نتوقف عن الركض لنلحق بها، ونبدأ في النظر حولنا، لعلها كانت بجانبنا طوال الوقت… ونحن فقط لم نرها.



