الجديد في علاج الذبحة القلبية : حذار من التداعيات الخطيرة للأزمة الإقتصادية-المعيشية ولجائحة كورونا
بقلم د.طلال حمود *
بداية لا بدّ من القول ان عمليات تشخيص امراض القلب والشرايين لم تشهد تغييرات جوهرية منذ سنوات ،وان ما كتبته في العام الماضي من الناحية النظرية والعملية يبقى صالحاً في العام ٢٠٢٠ بمعظمه ما عدا الشق الأخير المُتعلّق بتداعيات التردّي الخطير الذي حصل في الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية وفي التداعيات الصحية والإقتصادية التي نتجت عن إنتشار جائحة كورونا التي حصدت ارواح حوالي ٦٥٠ الف شخص عبر العالم.
وكنت قد نشرت في السنة الماضية مقالة تتحدّث عن آخر التطورات العلمية في تشخيص امراض القلب والشرايين في العام ٢٠١٩. ولكن التطورات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والمعيشية التي يمرّ بها لبنان منذ ما قبل- ومع -وما بعد- حراك او ثورة او إنتفاضة ١٧ تشرين ٢٠١٩ جعلت الأمور الإقتصادية والإجتماعية تتردّى بشكلٍ مخيف منذ ذلك التاريخ وما قبله او من حوالي سنتين تحديداً لأن البعض يقول ان الأزمة بدأت في سنة ٢٠١٧. فقد شهد لبنان تدهوراً كبيراً للأوضاع الإقتصادية وتدهور مهول في سعر صرف الليرة اللبنانية على الدولار الأميركي وإرتفاع جنوني في اسعار السلع وصعوبات كبيرة في إستيراد جميع او معظم انواع السلع والمُستلزمات الطبية بشكلٍ خاص. مما ادّى الى تعثّر كبير في القطاع الصحّي والإستشفائي في لبنان يتفاقم يوماً بعد يوم الى درجة إغلاق بعض المستشفيات ابوابها بالكامل او إغلاق بعض الأقسام المُكلفة. وقد لجئ بعضها الى تسريح لعدد كبير من الموظّفين او لتخفيض اجور آخرين وما الى ذلك لأن التعثّر اصاب القطاع الصحي كما كل القطاعات بسبب تعثّر الحكومة والدولة اللبنانية وعجزهما في كل المجالات تقريباً. وقد اتت جائحة كورونا في بداية العام ٢٠٢٠ لتُكمل الإجهاز على القطاع الصُحي ولتُفاقم بشكلٍ خطير الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والمعيشية لمعظم طبقات الشعب اللبناني، لتؤدّي كل تلك العوامل مُجتمعة لحالة خطيرة جداً لم يشهد لها المجتمع اللبناني مثيلاً منذ زمن طويل حتى خلال سنوات الحرب الأهلية المشؤومة. وهذا ما سيكون له كما سنرى تداعيات صحية وإجتماعية وإنسانية جمّة على الشعب اللبناني خاصة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة ( التي لم تعد موجودة تقريباً) منه.
وكما كنّت أشرت في مقالات سابقة فإنّ أنواع النوبات القلبية أو الذبحات القلبية تُصنّف بين حالات الخُناق الصدري المُستقّر والتي من المُمكن أن يتمّ علاجها بشكلٍ بارد ودون إستعجال . وحالات الخُناق الصدري الغير مُستقّر من دون إرتفاع في مؤشّر ST segment أي وجود إنخفاض في هذا المؤشّر أو تغيّرات على تخطيط القلب تدّل على وجود نقص تروية في أحد شرايين القلب. وهي حالات يجب إدخال المريض فيها إلى المستشفى من أجل تلقّي العلاجات في فترة تتراوح بين ال ٢٤ و ٧٢ ساعة ويجب خلالها إجراء عملية تمييل لشرايين القلب من أجل معرفة حالة شرايينه وتقديم العلاج المناسب . أمّا الحالة الأخطر فهي حالة الذبحة القلبية مع إرتفاع مؤشر ال ST segment على تخطيط القلب فهي الحالة التي سوف نتكلّم عنها في هذه المقالة المُختصرة.
وهنا أُشير إلى أنّ الذبحة القلبية أو ما يُعرف باللّغة العربية الفُصحى بحالة : إحتشاء عضلة القلب هي حالة خطيرة جداً ( الأخطر بين اعراض مرض تصلّب الشرايين التاجية للقلب ) يتخلّلها ألم شديد في القفص الصدري يمتد نحو العُنق والفكّين وبين الكتفين أو الى الكتف الأيسر أو الذراع الأيسر. وهذا الألم يمتد لفترة تتعدّى العشرين إلى الثلاثين دقيقة لكي نتكلّم عن ذبحة قلبية. ويُرافق هذه الحالة حالة غثيان ودوار وشعور بالإختناق مع إحتمال حصول قصور حاد في عضلة القلب وإحتقان رئوي حاد مع حالة تعرُّق بارد وتقيؤ وقد تتطوّر هذه الحالة الى حالة غياب عن الوعي في حال حصول إضطرابات خطيرة في ضربات وكهرباء القلب.في هذه الحالة يجب فوراً إدخال المريض إلى المستشفى مع التّركيز على النقاط التالية:
١-أهميّة أن يصل المريض إلى المستشفى في فترة لا تتجاوز الساعة من بدء حصول الأعراض . وهي الفترة الذهبية لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الخلايا العضلية القلبية لأنّ إستمرار إنسداد الشريان التاجي للقلب المسؤول عن الذبحة القلبية يؤدّي الى موت الخلايا العضلية ومن هنا تنبع أهمية وصول المريض في أقصى وقت ممكن إلى المستشفى من أجل تلقّي العلاجات اللّازمة.
٢-إنّ العلاجات المتوفرة حالياً تنقسم إلى قسمين :
أ-العلاج بواسطة الأدوية المُذوّبة للجلطات Thrombolytics أو Fibronolytics وهي أدوية فعّالة جداً وإستُعملت لفترات كبيرة في السّابق منذ سبعينيات القرن الماضي . ولكن إستعمالها بدأ بالإنحصار بشكل كبير منذ بعض السنوات بسبب تطوّر العلاجات الأخرى بواسطة الطرق التّدخلية أي بواسطة التمييل وتوسيع الشرايين بواسطة تقنيّات البالون والراسور. هذه الأدوية فعّالة جداً ومن الممكن أن يتمّ إستعمالها في المراكز أو المستشفيات النّائية أو البعيدة أو في حال تعثّر وصول المريض إلى مركز مُجهّز بغرفة للتمييل من أجل تلقّي العلاج المناسب بواسطة فتح الشريان بتقنيّات البالون والراسور (مرضى المناطق الذين يصلون إلى المستشفيات الرّيفية البعيدة الغير مجهّزة بغرفة تمييل أو بعض المرضى الذين لا تتوفر لديهم الإمكانات المادّية من أجل تغطية كلفة عملية الراسور والبالون بحالة طارئة وهنا نقصد بعض المرضى من الأخوة النازحين السّوريين أو اللّاجئين الفلسطنيين).
ب-العلاج بواسطة الطرق التدخلية Interventional cardiology وهو العلاج الذهبي الذي يُستعمل منذ اكثر من ١٥ سنة. وهو متوفّر في ٢٠٢٠ في مُعظم المراكز التي تُعالج مرضى القلب والشرايين في بيروت وفي المدن الكبرى (بيروت،صيدا،صور، طرابلس،زحلة،بعلبك زغرتا،الخ..) أي في حوالي ٤٥ مركز طبّي مُجهّز من أجل إجراء هكذا عمليات. وفي هذه الحالة يتمّ إدخال المريض بحالة طارئة عند وصوله إلى المستشفى دون إضاعة كثيرة للوقت. ويتم إجراء تمييل للقلب وتحديد حالة الشرايين التّاجية للقلب وفتح الشريان التّاجي المسؤول عن الذبحة القلبية بحالة طارئة. نشير هنا إلى أنّ الفترة الذهبية لإنقاذ أكبر كميّة مُمكنة من الخلايا القلبية تتراوح من ٦٠ الى ٩٠ دقيقة منذ بدء الأعراض وحتى فتح الشريان. وفي هذه الحالة يتمّ وضع راسور من النوع المَطلي بالدواء في معظم الأحيان(٩٥% من المرضى). ويقتصر إستعمال الراسورات من النوع العادي أي الغير مَطلي بالدواء للمرضى الغير قادرين على تغطية كلفة هذه العمليات أي كما أشرنا سابقاً (بعض المرضى اللّبنانيين الذين يعانون من حالة فقر مُدقع أو بعض النازحين السّوريين أو بعض اللّاجئين الفلسطنيين.
٣-يبقى المريض الذي تعرّض لذبحة قلبية في العناية الفائقة لمُدة تتراوح من ثلاثة إلى أربعة أيام لمُراقبة حالته الصحية ولمُراقبة المُضاعفات الجانبية التي قد تحصل عند تعرّضه لهذه الحالة وهي قد تكون على شكل إضطرابات في كهرباء القلب،قصور في عضلة القلب،إلتهابات في غشاء القلب،قصور كلوي،قصور كبدي..الخ. ويخرج المريض بعد ذلك إلى غرفة عادية ويُسمَح له بالعودة إلى منزله بعد حوالي أسبوع من تعرّضه إلى الذبحة القلبية.
٤-يجب على المريض الذي تعرّض لذبحة قلبية الرّاحة التّامة في المنزل مدة تتراوح بين عشرة أيام الى خمسة عشر يوم . ومن المُمكن مُعاودة النشاط المهني والعودة إلى العمل بعد فترة قد تتراوح بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع بحسب حالة المريض وبحسب خطورة الذبحة القلبية التي تعرّض لها.
ونشير هنا إلى أنه في معظم الدول الأوروبية والدول المتقدّمة يُوجد مراكز لإعادة تأهيل المرضى حيث يخضعون لتدريبات تدريجية على معاودة النشاط الجسدي تحت مُراقبة طبية وبمُعاونة فريق من الأطباء المتخصّصين في إعادة التأهيل وفريق من أخصائيي التغذية والممرضين والممرّضات المتخصّصين بإيقاف التدخين والإحاطة بالجوانب البسكولوجية والنفسية للمريض لأنّ تعرّض المريض لذبحة قلبية في عمرٍ مُبكر قد يغيّر كُلياً نظرته للحياة وقد يؤدي احياناً إلى إعاقة نسبية بسبب عدم قدرته على القيام بالجهد بالشّكل المطلوب.
٥-يجب على المرضى الذين تعرّضوا لذبحة قلبية في كل الحالات إيقاف التدخين ومراقبة الضغط الشرياني ومرض السّكري وإرتفاع الذهنيات وتناول الأدوية المناسبة لهذه الحالة وكذلك تناول أدوية من عائلة مضادات التخثّر لفترة سنة على الأقل والإستمرار في ما بعد بتناول الAspirin والأدوية الفعّالة الأخرى التي أثبتت فعاليتها في علاج هكذا نوع من المرضى مضادات Beta وادوية الدهنيات والسكري والضغط , وأدوية أخرى لتحسين حالة عضلة القلب في حال حصول خلل في عملها .
٦-تتمّ مُراقبة المريض بشكل خارجي من قِبَل طبيب القلب المُتابع لحالة المريض بشكل دوري كل ثلاثة الى ستة أشهر. ولا يجب أعادة إجراء تمييل القلب او القسطرة القلبية إلّا في بعض الحالات النادرة التي تظهر فيها علامات مُعاودة إنسداد أو لتطوّر المرض في شرايين أخرى ومن الممكن الإكتفاء بفحص الإجهاد القلبي Stress Test أو بالصورة الصوتية للقلب لمتابعة هؤلاء المرضى الذين يجب أن يخضعوا لفحوصات مخبرية بشكل دوري ولتخطيط عادي للقلل بشكل دوري أيضا".
٧-إنّ الذبحة القلبية ورغم خطورتها في سنة ٢٠٢٠ لا تستدعي القلق الكبير والخوف الكبير من هكذا مرض لأنّ علاجات أمراض القلب والشّرايين تطوّرت بشكل كبير في مُختلف دول العالم وفي لبنان أيضاً وأصبح من الممكن أن يشفى المريض كلياً من هذه الأعراض إذا ما تمّ علاجه في الوقت المناسب المطلوب. من أجل ذلك ننصح المرضى بعدم الإنتظار كثيراً قبل إستشارة الطبيب والتّوجه الى المستشفى في حال حصول أية أعراض قد تكون ناتجة عن ذبحة قلبية. وهنا نُشير الى أهمية أن يصل المريض في الساعة الأولى من حصول الأعراض. لكن هناك دراسات تشير بأنّ الإستفادة مُمكنة حتى ولو وصل المريض خلال ٦ ساعات من بدء حصول الأعراض أو حتى ١٢ أو ٢٤ ساعة من بدء حصول الأعراض، لكنّ الفائدة في هذه الحالة تكون أقل بكثير لأنّ الضرر المُمكن في عضلة القلب يكون قد حصل.
٨-يجب أن ننصح كل المرضى الذين تعرّضوا لذبحة قلبية بشكلٍ عام أن يعودوا لمعاودة النشاط الجسدي والقيام بتمارين رياضية دورية لما في ذلك من أهمية كبيرة في إعادة تقوية عضلة القلب وفتح شعيرات شريانية صغيرة لتغذية المنطقة المُتضرّرة. وقد أثبتت دراسات كثيرة أهمية هذه التمارين الرياضية في إعادة تنشيط وتقوية عضلة القلب.
٩- تأثير الأوضاع الإقتصلدية والإجتماعية والمعيشية: امّا الجديد والأخطر والذي استجدّ في هذا العام ومقارنة مع العام ٢٠١٩ فهو التدهور الخطير الذي حصل منذ ما قبل بداية الحراك الشعبي (او يسميه البعض بالثورة او الإنتفاضة الشعبية)والذي ترك إرتدادات خطيرة على كل المستويات اشرنا لها في مقالات سابقة. فبداية حصل التدهور الإقتصادي المهول وإنخفاض سعر صرف الليرة مقابل الدولار مما تسبّب بإرتفاع كبير للأسعار وصلت نسبته الى حوالي ٢٠٠ او ٣٠٠ ٪ لبعض السلع. وما فاقم الوضع ايضاً بشكلٍ خطير "الأزمة الصحية العالمية" التي نتجت عن إنتشار "جائحة كورونا" وما سبّبته من خسائر بشرية وإقتصادية هائلة طالت بالتأكيد معظم طبقات المجتمع اللبناني والتي لعبت دوراً إضافياً خطيراً في زيادة تردّي الأوضاع منذ مطلع هذه السنة. كل هذه العوامل مجتمعة ادّت الى الكثير من المشاكل الإجتماعية والمعيشية، بحيث إنتشر الفقر وازدادت البطالة ووجد الكثيرون من الناس انفسهم بلا عمل او تبخّرت ودائعهم في المصارف او اصبحوا يقبضون نصف او ثلث معاشهم او انخفضت القيمة الشرائية لما كانوا يقبضونه بشكلٍ كبير. مما تركهم يعانون اصعب الظروف المعيشية التي لم يعرف مثلها لبنان منذ تاريخ تأسيسه. وهذا ما سيكون له تداعيات خطيرة جداً على مرضى القلب والشرايين، لأن معظمهم سوف يضطّر مُجبراً إما لإيقاف ادويته او لإستعمال "ادوية جنيسة او رديفة، رخيصة الكلفة" او اقل فعاليّة ، ناهيك عن توقّف المرضى عن زيارة الأطباء والمستشفيات او إجراء الفحوصات او التحاليل المخبريّة إلاّ في الحالات الحرجة جداً ولجوء البعض منهم الى زيادة استهلاك السجائر والكحول وإيقاف كل انواع التمارين الرياضية والغرق في انماط غذائية مؤذية جداً للقلب وفي القلق والتوتر والإكتئاب. وكلها عوامل سيكون لها تأثيراتها الخطيرة في زيادة امراض القلب والشرايين والسُكّري وإرتفاع الضفط الشرياني وغيرها من الأمراض. كذلك كان لفقدان العملة الخضراء من الاسواق وتقنين توزيعها ولتقنين او ما سُمّي بتنظيم إستيراد معظم المستلزمات الطبية الأثر الكبير على إستمرار عمل المستشفيات التي إضطرّت الى رفع الأسعار ايضاً وتقنين عملية إستقبال المرضى لأن كلفة إستيراد هذه المستلتزمات والتي يُستعمل الكثير منها خلال عمليات التمييل او عمليات توسيع الشرايين. فقد إرتفعت كلفتها بشكل كبير وهذا ما دفع ثمنه المواطن ايضاً لأنه في النهاية هو الحلقة الأضعف، ولا يمكن ايضاً للمستشفيات ان تستمّر في العمل وهي مُجبرة على دفع كلفة كل هذه المستلزمات بالعملة الصعبة وعلى "الكاش" اي مباشرة يوم التسليم ودون اي تأجيل كما كان يحدث في السابق لأن الشركات المستوردة لهذه المواد او المستلزمات يجب ان تدفع ايضاً بالعملة الصعبة ودون اي تأخير للشركات التي تشتري منها خارج لبنان.
فنحن إذا امام "حلقة جهنمية مهولة "سيكون لها إرتداداتها الكثيرة على مصير الآلاف من اللبنانيين الذين ستزيد عندهم نسبة ومخاطر امراض القلب والشرايين بشكلٍ كبير وسوف يكونون غير قادرين على الطبابة او الذهاب الى المستشفيات بسبب الفقر والبطالة والخوف من العدوى بمرض كورونا طبعاً.
وكل ما تقدّم من معطيات ستكون له تداعيات صحية خطيرة جداً ستظهر تباعاً وبشكلٍ مؤكد في السنوات القادمة وستدفع اثمانها الأجيال القادمة من اللبنانيبن وعلى كل المستويات في زيادة مفرطة في مخاطر امراض القلب والشرايين وعدد كبير جداً من الأمراض الأخرى التي ذكرناها في مقالات سابقة.
*طبيب قلب تدخّلي- رئيس جمعية عطاء بلا حدود وملتقى عطاء وحوار بلا حدود.