الجدية في مكافحة الفساد تكمن في تحصين القضاء واستقلاليته
منذ بدء ولاية الرئيس عون ونحن نسمع عن جدّية النوايا في مكافحة الفساد وعن عزمٍ على إنشاء هيئة عليا لهذا الغرض. ورغم سوء الظروف الاقتصادية واستعجال الحكومة للبدء بالاستدانة المقررة وفق مؤتمر "سيدر"، إلاّ أن لا إنجازاً حقيقياً حدث ولا تقدماً ملحوظاً طرأ يرويان ظمأ اللبنانيين للحقيقة.
إن جُلَّ ما نشهده اليوم لا يعدو كونه "همروجة" إعلامية. فمكافحة الفساد بالقطعة، في هذه المرحلة لا تكفي، أولاً لأن الفساد مستشرٍ بشكل واسع جداً وإدانة موظفٍ أو إدارة بجرم الفساد، لن تمنع الخلف أو توقف ادارةً أخرى من ارتكاب الجرم نفسه. وثانياً لأن هذا النمط في محاربة الفساد هو أشبه بمحاولة تضليل للرأي العام وتحويل انتباهه عن مكمن الخلل الحقيقي.
والحرب ضد الفساد لا تساق بإطلاق بعض الأحزاب حملاتها عبر المنابر الإعلامية، قبل الرجوع الى القضاء، وقبل ممارسة نوابها صلاحياتهم الرقابية بإقامة التحقيقات القضائية، وبتوجيه أصابع الإتهام باتجاه الخصوم، فيما لم تجرِ هي نفسها محاسبةً ذاتيةً ولو من باب ابداء حسن النية. الأمر الذي يثير الشكوك حول الأهداف الحقيقية لهذه الأحزاب وصدق نواياها.
فهل تظن هذه الأحزاب بأن نهجها هذا يزيدها شعبيةً ومصداقية؟
في الواقع، إن الإصرار على الظهور بمظهر الفريق النزيه والمدافع عن حقوق الناس والمال العام هو أمرٌ لم يعد يمرّ بسهولة، لأن التاريخ والحاضر أثبتا أن كل حملات الأحزاب الشعبوية والسلطوية في العالم كانت وما زالت حملات ضد الفساد، من بوتين في روسيا وأوربان في المجر وترامب في اميركا وبولسونارو في البرازيل. ويظهر هذا الكلام في كتاب "كيف تعمل الفاشية؟" للمفكر الأميركي جايسن ستانلي من جامعة ييل.
فهذه الحملات التي ترفع من شأن الزعيم وتستقطب حوله المؤيدين، تنقل ما في زعيمها وحزبه من عيوب لتلبسها للخصوم، فتسمح لهذا الزعيم في النهاية بترداد ما قاله أردوغان يوماً:"نحن الشعب، من أنتم؟".
كما ان ضبط الفساد لا يتحقق بنقل مهام القضاء الى الشارع ليتولّى المواطنون المصطفّون خلف معسكراتهم الحزبية، عمل القضاة والمحامين فيصدرون الأحكام تارةً ويتوكلون بالدفاع الشرس والأعمى عن زعاماتهم تارةً أخرى، في دولةٍ اعتنى حكّامها عنايةً دقيقةً في إبقاء شعبها منقسماً إنقساماً عبثياًً.
لذلك إن على من يدّعي الحرص على الوطن أن يمتنع عن تحريض الشعب على بعضه البعض. وأن يضع الإصبع على الجرح ويقول الحقيقة كما هي. فالفساد هو نتيجة، والأصل فيه يعود الى تعدّي السياسة على القضاء وهذا التعديّ له اسم وهو ليس شبحاً. تجدونه في المرسوم الاشتراعي رقم ١٥٠/٨٣ الذي ينظم عمل القضاء العدلي، وفي بعض مواد القانون الصادر بالمرسوم رقم ١.٤٣٤ سنة ١٩٧٥ الذي ينظم القضاء الإداري. إن هذه النصوص القانونية سمحت لوزراء العدل بالتدخل في كل شؤون القضاء والقضاة وأعطتهم صلاحيات واسعة جدا، في حين ان السلطة القضائية وفق الدستور هي سلطة مستقلة.
وبالتالي لا مجال لأي إصلاح جدّي ما لم يخرج القضاء من عباءة وزراء العدل الثقيلة.