مارسيل خليفة – الحوارنيوز
تراودني من سنين تلاوتها وموسقتها، ومن أَشْهُر بدأت أعزفها على أوتار عودي والبارحة أنهيت المسودة الأولى الطالعة من بئر الصدر.
اليوم أشمّر عن أنغامي وأبدأ من جديد في الكتابة الموسيقية الثانية. أنقّح، أبدّل، أمزّق، لأصل بعد مخاض عسير إلى ولادة جديدة للجدارية ولو بعد حين .
وأصل الحكاية هي رغبة ” الشاعر ” في وضع الموسيقى للديوان الكامل عندما شاركته بأمسيتين يقرأ الجدارية: الاولى في قاعة الاونيسكو بباريس، والثانية والأخيرة في قصر الأونيسكو ببيروت في نهاية سنة ١٩٩٩ . ورغبتي الوارفة أن أترك أثراً وشهادة على تجربة مشتركة مع صديقي ” الشاعر ” ، تألبّت على نور الأمل ونار الحسرة وبلورة خصوصية لا بديل عنها في هذه الأيام الموحشة.
كنت أريد أن أكّف عن عبث الغربة والحَجْر المنزليّ المتكرّر والصارم وأخترع لنفسي حالة “خَلقْ” في زمن الضجيج والوحشة والغياب.
في نفسي جنون مضاء مهما ضيق على الفلك مساحتي فكانت الجدارية وجنائنها الواسعة والشاسعة ، تتسّع لخطوة الحضور وخطوة الغياب . فبدأت بكتابة الموسيقى وتنقيحها من عبث أقوى من بياض الكلمة والنوتة الذي لا ينتهي.
فكلما كتبت أحسست بأنني لم أكتب بعد. وكلما استمعت إلى ما كتبت أحسّ بأنها ليست بعد الموسيقى التي أحلم بكتابتها والتي أسمعها بوضوح فاضح في الحلم ،وعندما أصحو تضّج أذني بصمت صارخ إلى ما لا نهاية ،فأعود وأضع نفسي في الريح والجنون، فليس في وسعي إلاّ أن أكون مجنوناً. ولن أشفى ولا أريد أن أشفى من هذا الجنون ،لأنه مرض ملازم لا يعني الشفاء منه سوى إنجاز موسيقى الجدارية، وأُصدّق نغمي المجدول من غيمة المجاز الشعري وأشرب الكأس حتى الثمالة في ” حضرة الغياب ” .
هل هي شبه ورطة ؟
هي ورطة جميلة !
حصان معلّق على وتر ، ما عليه سوى الاندفاع إلى الهاوية والقبض على الصهيل .
إن القلب ليس في القلب . فقد تجده هناك على رصيف الوقت والأشعار ،وقد تجده دون ان تبحث عنه، دون ان تلحق به وهو يعيش امامك يبتعد عنك ليلحق بصدى ايقاع بعيد .
الزمن ذلك المرهون بدقات القلب وذلك المتناثر مع دقّات الساعة . الزمن النابع منّا ليصّب بعيداً في اعماق الأبديّة .
نتسلّى ونلوذ بما يبقى من هواجسنا ،ونظل رغم كل شيء أولاد عقلاء لحدود الفجيعة .
فما قيمة الحياة والموت بلا شاعرية؟.
*”الجدارية” هي قصيدة شهيرة للشاعر الراحل محمود درويش
زر الذهاب إلى الأعلى