بقلم د.عماد عكوش-خاص الحوار نيوز
منذ الأستقلال ،لا استقرار سياسياً وأمنياً في لبنان مع بعض الفترات التي كانت تشهد أستقرارا أقتصاديا مقبولا فيساعد على تقدم البلد وازدهاره .
مع نهاية الحرب الأهلية عام 1991 وتوقيع أتفاق الطائف ، برزت فترة تسوية جديدة وتمظهرت مع قدوم الرئيس الراحل رفيق الحريري مع عدته الكاملة في وزارة المالية ومصرف لبنان فكان ذلك مبعث ارتياح عند اللبنانيين وفتح نافذة أمل لهم ، فنجح بشكل مؤقت في جعل القطاع المصرفي يحافظ على ثقة المودعين ويجذب المزيد من الودائع إليه ، ونجح أيضاً في ضخ السيولة في شرايين الحركة الإقتصادية من تجارية وصناعية وزراعية وسكنية ليخرج الحركة من جمودها، لكن الثمن كان كبير جدا حيث وصلت خدمة الدين العام المدفوعة طوال 25 سنة الى أكثر من 93 مليار دولار أميركي ، ودين عام زاد عن 100 مليار دولار في نهاية العام 2018 . أما الاستقرار السياسي فلم يتحقق بالمطلق، فكثيرا ما كنا نشاهد التقاتل السياسي والذي كان يتحول في كثير من الأحيان الى تراشق في الشوارع ما بين مناصري الأطراف السياسيين ، لأن الانقسام الحاد بين اللبنانيين حول المواضيع الداخلية والقضايا الخارجية جعل المصالح الخاصة تتقدم على المصالح العامة . وقد حال هذا الانقسام دون تشكيل حكومات منسجمة ومتجانسة كي تحكم وتنتج ، كما حال دون إجراء انتخابات نيابية في موعدها فصار التمديد عنوان المراحل ، وحال استمرار انقسامهم دون اجراء انتخابات رئاسية ونيابية في موعدها في عدة استحقاقات .
ان الظلم اللاحق بالمواطنين اللبنانيين نتيجة لعدم العدالة المواطنية ترك ولا يزال يترك كبير الأثر على الإنتماء لهذا الوطن وسهولة التخلي عنه لمن يشتري أو لمن يدفع أكثر ، والكل يشهد أن لبنان لم يستقر في تاريخه سياسياً وأمنياً بسبب فقدان العدالة بين مواطنيه ، كما فقدان العدالة بين المواطنين اللبنانيين يفقد ثقة المواطن بوطنه ، كذلك الإقتصاد إذا فقدت الثقة به فلا شيء يستطيع النهوض به.
أستعادة الثقة ؟
كيف يمكن أن يستعيد القطاع المصرفي والنظام المالي والإقتصادي في لبنان الثقة من جديد ؟ وهل في حال تم تشكيل حكومة مستقلّة والشروع بالاصلاحات ، ستعني حتماً استعادة الثقة ؟
يزداد الحديث في الفترة الاخيرة عن انّ حلّ الأزمة المالية والإقتصادية التي يعانيها لبنان يستوجب أوّلاً تأليف حكومة مستقلّة والشروع بالاصلاحات المطلوبة بالإتفاق مع صندوق النقد الدولي . ورغم أن الخطوة الأولى لبناء الثقة يجب أن تبدأ بتشكيل الحكومة ونيلها الثقة ، إلا انه لن يؤدي حتماً الى استعادة الثقة بالبلاد قبل خمس سنوات على الأقلّ في حال بدأنا اليوم بشكل جدي وفاعل . كما انّ هذه الخطوة مع الخطوات الجدية الفاعلة يمكن أن تؤدي الى الأفراج عن أموال “سيدر” ومبلغ لا بأس به من صندوق النقد الدولي ، إلّا انها لن تعيد ثقة المستثمرين والمودعين وأصحاب الرساميل والمغتربين الذين اعتمد النظام المالي والمصرفي والإقتصاد اللبناني على تدفقاتهم المالية منذ نشأة لبنان لتمويل عجز الدولة . من هنا تبرز تساؤلات كثيرة حول هذا الموضوع أهمها:
– هل يمكن للمودعين الذين أخرجوا أموالهم استعادة الثقة لتشجيعهم على إعادة الودائع الكبيرة التي أخرجوها لأعادتها إلى البلاد ، كما دعا تعميم مصرف لبنان الرقم 154 ؟
– هل يمكن للقطاع المصرفي أستعادة الثقة ، واستعادة دوره كعامود أساسي في الإقتصاد اللبناني ؟
– هل يمكن استعادة الثقة بالبنك المركزي ، بعد الخلاف على أرقام خسائره بين مختلف الاطراف المالية اللبنانية ، والهندسات المالية التي قام بها وكبدت الإقتصاد الوطني مليارات الدولارات ولاحقا سياسة الدعم التي انتهجها ، واستقدام شركة عالمية للتدقيق المالي الجنائي في حساباته ، ما يضع علامة استفهام على صدقيته امام الجمهور كافة؟
– هل يمكن للمغترب الذي حُرم من مدخراته ، أن يستعيد الثقة بالقطاع المصرفي ، ليعود ويحول امواله الى لبنان؟
– كيف يمكن لمصرف لبنان أن يستعيد الثقة والمصداقية وهو لا ينشر ميزانيته المدقّقة وتقرير مفوض المراقبة ، علماً انّ البنوك المركزية حول العالم تنشر ميزانياتها في غضون 3 أشهر كحدّ أقصى من العام ، ناهيك عن انّ صدقية مصرف لبنان تنعكس على صدقية المصارف التجارية ، مما قد يدفع البنوك الاجنبية المراسلة الى مقاطعتها مصرف لبنان .
كيف يمكن استعادة الثقة ؟
على صعيد الدول ، وضعت الأنظمة قاعدة أساسية لقياس درجة الثقة ،ويمكن الوصول لها من خلال تحقيق الوعود الإنتخابية للأحزاب المنخرطة في العملية الديمقراطية وقياسها مع ما تحققه بعد فوزها وانخراطها في العمل الحكومي . وهذا الأمر يمكن تطبيقه أيضا حتى على الشركات الكبيرة التي يتم انتخاب مجالس أدارتها في الجمعيات العمومية .
الثقة بالإقتصاد والنظام المالي في الأنظمة الديمقراطية الحرة محكوم بستّة عوامل : الأستقرار السياسي ، الأستقرار الأمني ، تداول السلطة بشكل سلس ، قوانين تواكب التطوّر ، إستقلال القضاء ، ومكافحة الفساد والتهرب الضريبي والجمركي.
في لبنان، الثقة بالإقتصاد شبه معدومة بسبب فقدان أو نقص في تأمين معظم هذه العوامل ، وهذا ما أدّى إلى تراجع الإستثمارات وتراجع الأداء الإقتصادي . بناء عليه فإن عدم توافر هذه العوامل يدفع المُستثمرين الى الإستثمار في بلد آخر بدل الإستثمار في البلد المعني . وهذا الأمر يجعل الإستهلاك الداخلي يعتمد على الإستيراد لتلبية حاجاته مع ما يؤدي ذلك من عجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات .
كل عوامل الثقة بالإقتصاد في لبنان شبه غائبة . فبعد أعوام عدة من الأستقرار الأمني ، جاءت العمليات الإرهابية والنزاع في سوريا والذي خلق بؤرا أمنية في لبنان لتُقلّل من ثقة المستثمر بالإقتصاد . وأيضًا على الصعيد السياسي ، هناك صراعات مستمرة بين القوى السياسية تشتد يومًا بعد يوم . أما بالنسبة لموضوع تداول السلطة ، والذي يتمثّل بالإنتخابات الرئاسية والبرلمانية وتشكيل الحكومة ، فإن الأحداث أثبتت أن التداول لم يتحقق في أي أستحقاق، فدائما كان هناك إما تمديد أو تأجيل لهذه الإستحقاقات وفي كثير من الأحيان مماطلة.
امّا على صعيد القوانين ، لبنان دائمًا كان متأخرا عن الدول الأخرى نتيجة للمناكفات السياسية في إقرار قوانين عصرية تواكب التطور والعصرنة واللحاق بالإقتصاد العالمي ، وإذا أقرّها لا يتمّ تطبيقها أو احترامها ، حيث لم تستطع مؤسسات الدوّلة فرض تطبيق هذه القوانين ، على مثال قانون منع التدخين وقانون السير وقانون مكافحة الفساد وغيرها . وأهم هذه القوانين قانون الموازنة ، الذي لا يتمّ إحترام مُهلها الدستورية التي تُشكّل عاملاً أساسياً في الحفاظ على استمرارية الثقة في مالية الدولة .
أما على صعيد القضاء ، فلا يُمكن ضمان استقلاليته بحسب النظرية الإقتصادية إلّا بتحقيق ثلاثة أمور:
(1) تشكيل السلطة القضائية من خلال القضاء نفسه وليس من خلال التعيين من قبل السلطة السياسية.
(2) تعيين جهازه الإداري من قِبل السلطة القضائية .
(3) ضمان إستقلاليته المالية .
وبالتالي نرى أنّ القضاء اللبناني بعيد عن الإستقلالية في ظل غياب هذه العوامل.
بالنسبة لموضوع مكافحة الفساد ، نرى أن لبنان بدأ حديثًا هذه العملية وهي ما زالت غير مكتملة ولم يتم لغاية اليوم تشكيل الهيئة المنوط بها متابعة تطبيق قانون مكافحة الفساد ، وبالتالي فإنّ ما تمّ تحقيقه على هذا الصعيد غير كافٍ لإقناع المستثمرين .
لذلك نرى أنّ العمل ما زال غير مكتمل لاستعادة الثقة بالإقتصاد ، لكي تعود الإستثمارات والثقة بالمنتوجات الوطنية . هذه الإستعادة تتمّ من خلال العمل على العوامل الستة الآنفة الذكر .
في الواقع ، في ظل النظام السياسي الحالي ، القائم على المحاصصة ومنح حق النقض الفيتو لكل طائفة بشخص زعيمها وتشابكها مع مصالح أقليمية ودولية ومع مصالح كارتيلات السلع والمنتجات ، والتي تمنع أتخاذ القرارات المفيدة، فمن الصعب جدًا استعادة هذه الثقة، ويبقى الترقيع والتسويات هي المبادئ السائدة والمعمول بها في لبنان ،وهذه المبادئ لن تنهي الأزمة لكن يمكن أن تخفف من حجم المشاكل التي يعاني منها النظام .
وبانتظار الأصلاح السياسي والذي هو مقدمة إلزامية لأي أصلاح مالي ، اداري ، واقتصادي سيبقى لبنان يعاني من الأزمات بمرور الوقت وسترتفع الكلفة وستبقى هجرة اللبنانيين قائمة هربا من الواقع المزري .
زر الذهاب إلى الأعلى