طارق عثمان* – CNN
هذا المقال عن التغيُرات القادمة في العلاقة الأمريكية مع الصين. وتلك هي العلاقة الأهم في كل الاستراتيجية الأمريكية في السنوات القليلة المقبلة. ذلك لأن الرؤية الأمريكية الآن ترى الصين قد تعدت كونها منافساً، ووصلت الى كونها مزاحماً وربما مواجهاً لوجود الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم.
ذلك الرأي خرج في البداية من داخل الحزب الجمهوري، وازداد قوة في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب، ولكنه أخذ قوة دفع كبيرة في الفترة الأخيرة، سواء داخل الحزب الديمقراطي أو في عدد من أهم مؤسسات القرار في الولايات المتحدة. ولذلك تلك الرؤية للصين لن تتغير بمجيء إدارة جو بايدن.
هناك 3 أسباب وراء تلك الرؤية:
1- الصين تعدت مرحلة اخفاء قوتها (وقد كان ذلك أسلوب عمل الحزب الشيوعي الصيني منذ نهاية السبعينات) ودخلت الآن بوضوح مرحلة تحصيل مكاسب، حتى وان استدعى ذلك إظهار قوتها الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية.
2- انعكاسات قوة الصين بدأت تتخطى شرق آسيا (وذلك جوارها الجغرافي)، الى شمال وجنوب القارة والى المحيط الهادئ، وتلك أماكن نفوذ أمريكي في العقود السبع الماضية. كما أن انعكاسات القوة الصينية بدأت تظهر خارج آسيا: بداية في افريقيا والآن في بعض دول أوروبا (في البلقان بشكل واضح، وفي إيطاليا واليونان بشكل أقل وضوحاً).
3- وهذه هي النقطة الأهم – لأن أسلوب العمل الأمريكي مع الصين في العقدين الماضيين لم يؤد الى الأهداف التي كانت مرجوة منه.
في العقدين الأخيرين حاولت الولايات المتحدة ادماج الصين في الاقتصاد العالمي من خلال السماح لاقتصادها ان يصبح عنصراً رئيسياً في خطوط الإنتاج لعدد كبير من الصناعات، من خلال السماح لها بلعب دور كبير في أسواق المال القائمة على الدولار، ومن خلال قبول الولايات المتحدة بفتح محدود للسوق الصينية أمام الولايات المتحدة وأوروبا.
الولايات المتحدة لم تفعل ذلك كرماً وعطفاً، ولكن من تصور أن تلك الخطوات سوف تربط الاقتصاد الصيني بالاقتصاد العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. والفكرة هنا، أن ذلك الارتباط سوف يؤدي الى تحول تدريجي في الصين نحو الفكر الليبرالي الذي يؤمن بحرية السوق. وبالطبع، هذا الطريق يؤدي إلى تغيرات في الثقافة السياسية، ومن بَعد في هيكل المجتمع وفي العقد الاجتماعي هناك. في تلك الرؤية، الهدف النهائي كان إخراج الصين من سيطرة الأفكار الحاكمة في الحزب الشيوعي وايصالها الى القبول التدريجي بالرؤية الأمريكية لسير الاقتصاد ومن ثم المجتمع والسياسة.. و ربما من المهم التذكير أن الولايات المتحدة كان لها نجاحات باهرة في تغيرات من ذلك النوع، بما في ذلك في دول آسيوية كبرى (مثل اليابان).
لكن ذلك لم يحدث.. بل استطاع الحزب الشيوعي الصيني أن يستفيد من ما سمحت به الولايات المتحدة في تطوير الاقتصاد الصيني، واستخدام القوة النابعة من ذلك في تركيز قوة الأفكار الحاكمة للحزب الشيوعي.
وعلى ذلك، ففي الرؤية الأمريكية، الصين (وعلى رأسها الحزب الشيوعي الحاكم) ليس فقط لم تسر على الطريق الذي تصورته الولايات المتحدة، بل أنها طورت من قوتها والآن تحاول تحصيل أسباب قوة أخرى من وفي أماكن مختلفة في العالم.
هناك جانب عسكري هنا. ذلك أن التفكير الأمريكي يرى أن القدرات العسكرية للصين ما زالت ضعيفة بالمقارنة بالولايات المتحدة. فالصين لا تستطيع اجراء عمل عسكري على نطاق واسع ضد دول كبرى في أي مكان خارج شرق آسيا. وحتى في شرق آسيا، فان الصين حتى الآن لا تستطيع مواجهة الولايات المتحدة. لكن الصين قد نجحت في تطوير امكاناتها بحيث أصبحت قادرة على التأثير في حرية حركة الولايات المتحدة في شرق آسيا. وفي الحساب الأمريكي، هذا بداية تغيير يمكن أن يصبح خطيرًا.
هناك جانب وقتي في ذلك الحساب – من الناحيتين. من ناحية، الولايات المتحدة تدرك أن تطور القدرات الصينية سريع وأن تجربة النمو الصيني وتجربة خروجها من حيز شرق آسيا إلى ما هو أبعد تُحَتِم على الولايات المتحدة العمل السريع لمنع الصين من تحصيل وسائل قوة جديدة. من الناحية الأخرى، الصين أول من يدرك أن الولايات المتحدة بدأت في إعادة النظر في أسلوب تعاملها معها. وذلك لا شك يدفع الإدارة الصينية الحالية (وهي من أكثر إدارات الحزب الشيوعي حزماً وصرامةً) الى السير نحو أهدافها بشكل أسرع.
لا شك ان فكرة المواجهة بين البلدين استراتيجية بالأساس: أي في التموضع في العالم وفي تحصيل وسائل القوة والنفوذ – وليس في احتمالية مواجهة عسكرية في المستقبل المنظور.
لكن ما هي الوسائل الأمريكية المحتملة في ظل النظرة الأمريكية الجديدة للصين؟
غالباً سنرى الولايات المتحدة تحاول منع الشركات الصينية من جني حصص سوقية في أي صناعات رئيسية في الغرب. سنرى محاولات لمنع الشركات الصينية من الوصول الى تكنولوجيات حديثة، خاصة في الصناعات التي ستُشكل اقتصاديات المستقبل (مثل القفزات في الفيزيا الكوانتم، الهندسة البيولوجية، الذكاء الصناعي، وغيرها). سنرى تضييقاً على مؤسسات الفكر الصينية (جامعات، دور نشر، بيوت اعلام، مراكز بحث وغيرها) من التواجد الحر في مراكز الفكر الكبرى في الغرب. سنرى محاولات لتغيير قواعد التجارة مع الصين، لاجبارها على فتح أكبر كثيراً مما سبق لسوقها امام شركات غربية. ومتصل بذلك، سنرى قواعد أكثر صرامة أمام الشركات الصينية التي تحاول تحصيل رؤوس أموال من أسواق المال الغربية، وأهمها وأكبرها بالطبع في الولايات المتحدة. ايضاً سنرى منافسة أمريكية ومن هيئات مالية متصلة بالنظام المالي الغربي للصين في استثماراتها الخارجية، ليس فقط في أوروبا، ولكن ايضاً في آسيا وافريقيا. ولعل الهدف الرئيسي هنا سيكون مبادرة الحزام والطريق (أو طريق الحرير الجديد) وهي المبادرة الصينية الأكثر طموحاً لربط اقتصاديات دول مختلفة بالصين.
ما الذي سيكون على المحك إن وقعت حرب تجارية بين أمريكا الصين؟
مع كل ذلك، ولا شك ليس أقل أهمية، ستقود الولايات المتحدة الغرب نحو حرب سرديات. بمعنى أن الصين قد استفادت للغاية من الكارثة المالية التي أصابت أمريكا في ٢٠٠٨. وكان جزء من الاستفادة تقوية رأي يقول إن النظام الليبرالي (اقتصادياً وسياسياً) يحمل في طياته أسباب تآكله، وإن الصين قد استطاعت تشكيل نظام جديد، قائم على دور محوري للدولة في الاقتصاد، ومن ثم في المجتمع. هذه السردية حصلت على قوة دفع كبيرة في العقد الماضي، خاصة مع المشاكل الاقتصادية في أوروبا، ومع صعود اليمين المتشدد في الغرب بأكمله (بما فيه في الولايات المتحدة نفسها، مع مجيء إدارة دونالد ترامب). هذه السردية خطيرة من وجهة النظر الأمريكية، ستكون مواجهتها وتقديم سردية جديدة عن الولايات المتحدة وعن الغرب بشكل عام، واحدة من النقاط الرئيسية التي ستركز عليها إدارة جو بايدن.
لكن السؤال الأهم سيكون عن المدى الذي ستصل اليه الولايات المتحدة في تلك المواجهة. والمقصود بالذات: هل ستحاول أمريكا في السنوات القادمة احداث تحديات داخلية، سياسية واجتماعية، في الصين، خاصة وأن في الصين العديد من المشكلات الداخلية التي يواجهها الحزب الشيوعي الحاكم معتمداً بشكل رئيسي على الأمن. أهمية هذا السؤال أنه سيُحدد درجة حرارة المواجهة، وسيُحدد ميادين المواجهة (في أماكن مختلفة من العالم، أم داخل الصين نفسها)، كما انه سيُحدد درجة رد الفعل الصيني (الاكتفاء بمحاولة الحفاظ على المكاسب التي حققتها في العقد الماضي، أم التوجه نحو الهجوم).
*كاتب ومعلق سياسي- شبكة CNN- وجهة نظر