التعميم 169 كلام حق يراد به باطل (عماد عكوش)

بقلم د. عماد عكوش – الحوارنيوز
في خطوة وصفت بـانها “الحامية لمبدأ المساواة بين المودعين” ، أصدر مصرف لبنان التعميم رقم 169، الذي يمنع المصارف من تسديد اي وديعة تعود لما قبل 11 تشرين الثاني 2019 أو تحويل أي ودائع إلى الخارج دون موافقة مسبقة منه .
يأتي هذا القرار في سياق تصاعد الدعاوى القضائية التي يرفعها مودعون لبنانيون في دول مثل المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، مطالبين باسترداد ودائعهم كاملة أو الحصول على تعويضات، بينما يُحرم المودعون داخل لبنان من حقوقهم الأساسية تحت ذرائع “الإجراءات الاستثنائية”.
وفقاً لمصادر مصرفية ، فإن المحاكم الأجنبية تطبق القانون اللبناني في قضايا الودائع ، وبما أن هذا القانون لا ينص صراحة على تفاوت في حقوق المودعين ولا ينص على احتجازها ، فإن تلك المحاكم يمكنها ان تصدر أحكامًا لصالح المدّعين وتطلب من المصارف، وخاصة من الفروع في الخارج، تسديد هذه الودائع نقدا ، ما قد يؤدي إلى استنزاف الكتلة المتبقية من الودائع لصالح فئة قليلة قادرة على اللجوء إلى القضاء الخارجي.
هنا، يبرر التعميم 169 نفسه كـأداة لضمان الإنصاف ، بحيث لا يحصل مودع في لندن مثلا على ملايين الدولارات، بينما يُترك المودع في بيروت يعاني من تقييد سحوباته بـ 500 دولار شهريا وفقًا للتعميم 158 والذي تم تعديله اليوم ليصبح 800 دولار ابتداء من نهاية تموز .
لكن هذا التبرير يخفي إشكالية جوهرية: هل يعالج التعميم اصل الازمة ، أم أنه مجرد ترقيع لإخفاء الانهيار المستمر للنظام المصرفي؟ وهل هذا التعميم هو مساواة في الحرمان أم في الحقوق؟
يطرح التعميم 169 مبدأ العدالة بحيث لا يُفضّل مودع على آخر، لكنه في الواقع يكرس المساواة في الحرمان ، لأن المشكلة الأساسية تكمن في :
- عدم الفرض على المصارف التجارية عدم التصرف في اصولها وموجوداتها، وهذا ما فعلته ابتداء بسندات اليوروبوند والتي وفق اخر التقارير هي تصرفت بأكثر من عشرة مليارات من اليوروبوند باسعار غير معروفة ، ولم يعرف لغاية اليوم من هو الشخص او المؤسسة التي اشترتها.
- لغاية اليوم ما زالت المصارف، ليس فقط تحرم المودعين من الفوائد على ودائعهم بالرغم من انها تستفيد من هذه الودائع في توظيفاتها ، بل هي تفرض على المودعين مصاريف ونفقات مرتفعة جدا على كل الخدمات التي كانت تقدمها للعملاء .
- عدم تطبيق التعميم 158 بشكل عادل على كل المودعين، لكن العديد من المودعين لا يحصلون حتى على هذه النذر اليسيرة.
- ما تزال الطبقة السياسية والمالية تتهرب من إصلاح النظام المصرفي أو استعادة الأموال المهربة، ما يجعل أي “إنصاف” في التعاميم مجرد حبر على ورق.
ان المصرف المركزي يدعي أن التعميم 169 يهدف إلى حماية حقوق المودعين ، لكنه في الحقيقة يحمي المصارف من تبعات الدعاوى القضائية الخارجية ، بينما يُبقي المودعين المحليين رهينة شروط قاسية. فبدلًا من معالجة أسباب الأزمة مثل الفساد وهروب رؤوس الأموال وانهيار الثقة ، يتم فرض مزيد من القيود التي تُبقي الودائع رهينة النظام ذاته الذي أفلسها.
التعميم 169 هو إجراء تقني قد يبطئ استنزاف الودائع عبر القضاء الخارجي ، لكنه لا يحل الأزمة . ان الحلول الحقيقية تتطلب :
- حسم موضوع القانون المتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي بشكل شفاف.
- محاسبة المسؤولين عن الانهيار واسترداد الأموال المهربة.
- إقرار قانون موحد يضمن حقوق جميع المودعين دون تمييز.
- وقف سياسة التمييز بين المودعين، سواء في الداخل أو الخارج، عبر ضمان سحوبات عادلة للجميع.
ان المودعين اللبنانيين أينما كانوا هم ضحايا نظام سياسي أفلس نفسه وأفلس البلاد . والتعميمات لن تنقذ ما تبقى من ثقة ما لم تترافق مع خطوات جذرية تُعيد الأموال ولو جزئيا إلى أصحابها نقدا وليس تقسيطا على مدى عشرين عاما ، هذه المعالجة ستُنهي عقدة الخوف من العدالة التي تهرب منها النخبة الحاكمة.



