التظاهرات وحتمية التغيير
الصورة التي نشهدها في هذه الساعات لم يعهدها لبنان من قبل، خصوصاً منذ انتهاء الحرب الأهلية. فالتحركات الشعبية التي تنتشر في مناطق عديدة تنبئ أنها في ازدياد مستمر، والخطاب العام الذي يحمله الناس هو سخط عارم من الطبقة السياسية التي أوصلت البلد إلى ما وصل إليه.
إن تحميل المواطنين ضرائب جديدة كانت الشرارة ولم تكن السبب الجوهري، وهذه الحكومة ليست علامة فارقة في سلسلة الحكومات المتعاقبة منذ عقود، والمعاناة التي يعيشها اللبنانيون ليست أمراً طارئاً، لكن يمكن القول إن تراكمات الفساد والمفسدين بلغت حداً لم يعد من الممكن تحمله أو قبوله. ولذا فإن إسقاط الحكومة الحالية ليس الحل الذي ينهي الأزمة، ولا انتخابات مبكرة لمجلس النواب، فالطبقة الحاكمة ستعيد إنتاج نفسها، وتظهر وجوه جديدة لأطياف قديمة، وستبقى الأوضاع تراوح نفسها، ولن يحدث التغيير في هذه الحالة فرقاً مؤثراً.
إن دراسة أزمة لبنان منذ عقود طويلة بطريقة علمية منطقية تؤكد أن النظام الطائفي بما يحمل من بنود ترفع من شأن العائلات الكبيرة والإقطاعات القديمة بغطاء حزبي وتنظيمي لتسود المذهب وتمثله في المؤسسات الرسمية وفي مجلسي الوزراء والنواب، فتعمل على سرقة خيرات البلد باسم المذهب والمنتمين إليه، فتزداد نفوذاً وثروات ويبقى المنتمون على هامش الحياة الكريمة. أفلا يعيش زعماء الطوائف في قصور فارهة وحياة باذخة بينما الناس في مهب ريح العوز والفقر؟ أفهل هي صدفة أن نشهد أسماء عائلات الزعامات نفسها منذ أكثر من مائة سنة في المجالات السياسية والدينية والزعمائية ومواقع القرار؟ أفلا ينقل الزعيم زعامته ونفوذه وثرواته وتأثيره لولده؟ ولماذا يرضى اللبناني بالانصياع والانسحاق بطريقة لا عزة فيها ولا حرية ولا كرامة؟ يجب ألا ننكر ونحن في مرحلة مفصلية أن كثيراً من اللوم يقع علينا نحن اللبنانيين، فقد أسلمنا توجهنا وقراراتنا وإراداتنا للزعيم والتعصب الطائفي لتكون غالباً ضد مصلحة الوطن وضد مصالحنا. الأزمة لا تكمن في هذه الحكومة أو النواب أو من يسود من هنا وهناك، وإنما في هذا النظام الذي يحمي الفاسدين ويرفع من شأنهم. فعندما يربو الدين العام على المائة مليار دولار والفساد يتغلغل في كل أرجاء الدولة ولا يحاكم مسؤول واحد على ارتكابه فاعلم أن طائفته تحميه، وتطالب بمحاكمة الفاسد الآخر من الطائفة الأخرى وإلا ستسود الفوضى في البلاد ونقع في أزمات لا طائل لها.
لقد آن الوقت لإلغاء الطائفية السياسية التي هي من أهم بنود اتفاق الطائف الذي يعلن غالبية السياسيين التمسك به كأفضل الحلول الراهنة المتوفرة، أو كأقلها سوءاً، فلم يعد مقبولاً أن يعيش زعيم هذه الطائفة أو تلك هاجس التهميش وانخفاض التمثيل الذي يخفض من نفوذه وسيطرته وثرواته، ويبقى حال البلد يزداد سوءاً مع كل حكومة جديدة قديمة، ومجلس نواب قديم جديد، وأزلام الزعامات التاريخية التي تتغير صورهم ولا تتغير ولاءاتهم. التظاهرات تعبر عن سخط مرير عن الأوضاع الكارثية التي يعيشها الناس، ويجب على الجميع حمايتها لكيلا لا تشوه نياتها وأهدافها، وذلك من خلال تحديد الهدف الأساس الذي تزول من خلال تحقيقه الأزمات المتعاقبة، وهو القضاء على هذا النظام الطائفي، وليس ضرائب فرضت في الأيام الماضية، ولا حكومة لم تختلف عن سابقتها، ولا أزمات حياتية مختلفة أو مشاكل تفصيلية تمس حياة اللبناني مع كل يوم جديد. يجب القضاء على أساس المشكلة التي أحدثت كل تلك التراكمات، وهو النظام ورموزه وأدواته الطائفية والمذهبية التي لا تعرف معنى للدين وأخلاقياته وأهدافه السامية، بل زواريب فاسدة وشعارات جوفاء وأيادٍ ملوثة، وقد آن الأوان ليحدث التغيير الحقيقي، وآن الأوان لكي نستريح.