دولياتسياسة

التصويب على فنزويلا.. والعين على كل أميركا اللاتينية (أكرم بزي)

 

كتب أكرم بزي – الحوارنيوز

 

لا يقتصر الضغط الأميركي على فنزويلا على مواجهة نظام نيكولاس مادورو بحدّ ذاته، بل يتجاوزها إلى إعادة ضبط المشهد الجيوسياسي في كامل أميركا اللاتينية. فواشنطن تنظر إلى القارة الجنوبية بوصفها العمق الاستراتيجي الذي لا يجوز السماح بانفلاته من قبضتها، خصوصاً مع تمدد النفوذ الروسي والصيني فيها.

وهذا التصويب الواسع يعيد إلى الواجهة عقيدة “مونرو” التي أُعلنت عام 1823، حين رسمت الولايات المتحدة خطاً أحمر واضحاً: “أميركا اللاتينية مجال نفوذ حصري لها، وأي تدخل خارجي فيها يُعد تهديداً مباشراً للأمن القومي الأميركي”. اليوم، تُحيي واشنطن هذه العقيدة بحلّة جديدة، فتعيد ترتيب ساحاتها الخلفية، وتستنفر أدواتها الاقتصادية والسياسية والأمنية لمنع أي قوة دولية من الترسخ في الفضاء اللاتيني. ومن هنا، يصبح الضغط على فنزويلا جزءاً من معركة أوسع لإعادة تثبيت الهيمنة الأميركية في منطقة لطالما اعتبرتها واشنطن “حديقتها الخلفية” التي لا يُسمح بامتداد الخصوم إليها.

 

تبدو فنزويلا اليوم في قلب مقاربة أميركية جديدة تُعيد نسج أولويات واشنطن في محيطها اللاتيني، بعدما باتت الإدارة الأميركية تتعامل مع نظام نيكولاس مادورو بوصفه “حالة أمنية” تتجاوز مسألة الخلاف السياسي. فاتهامات البيت الأبيض للنظام بأنه يحكم دولة “تديرها شبكات المخدرات والجماعات المسلّحة” ليست مجرد توصيف عابر، بل مقدمة لصناعة مشهد يدفع نحو شرعنة التدخل وإعادة إدراج كاراكاس ضمن العناوين العاجلة في استراتيجية الأمن القومي الأميركي.

في العمق، لا ينفصل التصعيد ضد فنزويلا عن لحظة أميركية مأزومة على المستويين الاقتصادي والاستراتيجي. فواشنطن، التي تحاول إعادة ترميم حضورها العالمي بعد سلسلة اهتزازات طاولت نفوذها في الشرق الأوسط وأوروبا، ترى في فنزويلا ركيزة يمكن أن توفّر منفذاً اقتصادياً وسياسياً، لسببين واضحين:

الأول، امتلاك البلاد أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، ما يجعل السيطرة على قرارها الطاقوي عاملاً مؤثراً في تنظيم أسواق النفط بما يخدم الاقتصاد الأميركي.

والثاني، أنّ استمرار فنزويلا كمنطقة نفوذ روسية – صينية يضرب مباشرةً أسس الدور الأميركي في “القارة اللاتينية”، ويمنح خصوم واشنطن موطئ قدم في مربّعها الخلفي التقليدي.

 

من هنا، تبدو معركة فنزويلا امتداداً لخط تحرك أميركي أوسع، تتقدم فيه سياسة “فرض السلام بالقوة” كعنوان دعائي، بينما يجري في الخلفية العمل على استعادة الهيمنة بأدوات جديدة.

 

أولاً: نموذج “الضربة النوعية”- استحضار التجربة الإيرانية

 

تقدّم التجربة الإيرانية نموذجاً تحرص بعض الدوائر الأميركية على استنساخه. إذ جرى خلال السنوات الماضية استهداف منظومة القيادة العليا في طهران عبر عمليات اغتيال دقيقة هدفت إلى خلخلة بنية النظام وتفريغ مؤسساته من شخصيات الصف الأول. ورغم محدودية النتائج، شكّل هذا المسار اختباراً للقدرة على ضرب “العصب القيادي” باعتباره الطريق الأسرع نحو إضعاف النظام.

 

اليوم، يُعاد طرح المقاربة نفسها تجاه فنزويلا: عملية خاطفة تطال المفاصل الصلبة في السلطة المدنية والعسكرية، بما يضمن خلق إرباك داخلي واسع، ويضع النظام أمام فراغ يصعب احتواؤه. غير أنّ هذا الخيار، وإن كان يُناقَش بجدية، يبقى محفوفاً بتعقيدات ترتبط بالوجود الروسي والصيني في كاراكاس، وباحتمال تدحرج المنطقة نحو صدام تتجاوز تداعياته حدود فنزويلا نفسها.

 

ثانياً: تفجير الداخل – المعارضة كأداة لا كساحة

إلى جانب سيناريو الضربة المباشرة، تعمل واشنطن على المسار الأكثر استخداماً في أميركا اللاتينية: تحريك المعارضة الداخلية لإحداث تراكم ضغطي يقود إلى انفجار سياسي واجتماعي واسع. فرغم نجاح مادورو في احتواء موجات احتجاج سابقة، تراهن الولايات المتحدة على أنّ الأزمة الاقتصادية الحادة، وتراجع الخدمات، وتآكل الثقة بالمؤسسات، تشكل بيئة قابلة للاستثمار لإنتاج فوضى منظمة.

 

وتسعى واشنطن، عبر هذا المسار، إلى جعل الساحة الفنزويلية أشبه بضغط سياسي مستمر يفقد النظام توازنه، ويفتح الباب أمام انتقال للسلطة، إما عبر انهيار ذاتي وإما عبر تسوية تُفرض من الخارج.

 

ختاماً: فنزويلا في قلب المنافسة الدولية

ما يجري ليس مجرد اختبار لإسقاط نظام، بل فصل من معركة كبرى على موقع الولايات المتحدة في النظام الدولي الآخذ بالتشكل. ففنزويلا تمثل بالنسبة لواشنطن أكثر من دولة متمردة على نفوذها؛ إنها مرآة تُظهر حجم التراجع الأميركي في بيئة كانت تاريخياً تحت السيطرة الكاملة.

 

ولذلك، تبدو الخيارات الأميركية اليوم محكومة بمعادلة دقيقة: رغبة جامحة في إسقاط النظام من جهة، وحسابات معقدة تتعلق بموازين القوى العالمية من جهة أخرى. وبين هذين الحدّين، سيتقرر مصير فنزويلا، ليس كحالة محلية، بل كجزء من صراع يتجاوز الجغرافيا نحو إعادة تعريف موازين القوة في العالم.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى