محمد صادق الحسيني
كل المؤشرات والعلامات التي ترسمها الدوائر الأميركية تؤكد بما لا يقبل الشك والتردد ،بأن أميركا تنسحب وتتقهقر عن خطوطها الهجومية الاولى الى خطوط دفاع داخل بيئتها الغربية (اوروبا ) في اطار الدفاع عن ذاتها المتصدعة بسبب انكساراتها المتتالية في غالبية الميادين…!
كما تتزايد الوقائع التي تؤكد ان تخبطاً واسعاً يسود الدولة الاميركيه ، سواءً العميقة منها او السطحية، الامر الذي يعود الى انعدام وجود او ايجاد استراتيجيه مناسبة لتحقيق الهيمنه الاميركيه الكامله على قيادة العالم ، كما كان عليه الوضع خلال السنوات الخمس والسبعين الماضيه ، اي منذ انتهاء الحرب العالميه الثانيه ، التي تصادف ذكراها السنوية اليوم ٨/٥/٢٠٢٠ .
وهي أزمة او مأزق استراتيجي سبق وجود وباء كورونا ، وتعود اسبابه بكل بساطة الى النفقات العامه للدوله الاميركيه التي اصبحت تفوق بكثير حجم إنتاجها . وهي التي اصبحت دولة مدينة بأربع وعشرين ترليون دولار …!
وهذا ما يضغط باتجاه تخفيض النفقات بشكل عام و"الدفاعية" منها بشكل خاص واختصار الوجود العسكري الاميركي على " نقاط دفاع استراتيجيه " في أماكن محددة في العالم فقط .
من هنا فان كل ما يجري حالياً في مسارح عمليات القوات الأميركية العالمي ليس سوى تعبير عن الفشل الكامل لسياسة واشنطن ، في الحشد الاستراتيحي ضد الصين وروسيا وكوريا الشماليه وايران ، وتراجعهابشكل ملحوظ عن هذه السياسه . الكثير من الأحداث ، وتصريحات الخبراء العسكريين الامريكيين ، في الاونة الاخيرة تؤكد ان الجيوش الاميريكيه ، بما في ذلك الاساطيل الجويه والبحريه والاسلحه الاستراتيجيه ، غير جاهزة لتنفيذ مهمات قتاليه بسبب نقص تمويل عمليات الصيانه والتحديث ،ما يعني ان واشنطن غير قادرة ، في الوقت الحالي على الأقل ، على الدخول في اي صراع عسكري واسع ، سواء في "الشرق الاوسط "او في جنوب شرق آسيا او حتى في أوروبا ( ضد روسيا ) .
التصريحات والإفادات الاميركيه ، الصادره في الايام القليلهالماضية ، تؤكد ما ذهبنا اليه اعلاه :
1. تصريحات وكيل وزارة الدفاع الاميركيه ، للشؤون السياسيه جيمس أندرسون ، والتي ادلى بها يوم الخميس ، ٧/٥/٢٠٢٠ ، خلال جلسة للجنة القوات المسلحه مخصصة لاعتماد تعيينه في هذا المنصب . تلك الإفادات التي قال فيها أندرسون : يجب نشر اسلحه نوويه اميركيه في دول الناتو . وهو الامر الذي شرعت البنتاغون في تنفيذه ، اعتباراًمن تاريخ ١٠/٤/٢٠٢٠ ، حيث بدأت باستبدال الرؤوس النوويه الاميركيه الموجوده في أوروبا ، وهي من طراز B 61 ، واستبدالها بنوع محدث من هذه القنابل يسمى : B – 61 / 12 .
2. ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الاميركيه ، يوم امس ٧/٥/٢٠٢٠ ، والذي تؤكده المصادر الاستخباريه العسكريه الخاصه كذلك ، حول قيام الولايات المتحده بسحب اربعة بطاريات دفاع جوي صاروخي ، طراز باتريوت من السعوديه ، الى جانب سحبها كتيبتين ، قوامهما الف ومائتي جندي ، من قواتها المنتشره هناك . المصادر الاستخباريه الخاصه اضافت بان البنتاغون قد أتم سحب سرب جوي ، تابع للجناح الجوي ٣٧٨ للتدخل السريع ، وهو جناح جوي للتدخل السريع في سلاح الجو ، منتشراً في قاعدة الامير سلطان في السعوديه ، منذ ما يزيد على عام .
3. قيام وزير الدفاع الاميركي ، مارك إسبر ، بدراسة سحب كتيبة القوات الخاصه الاميركيه الموجودة في سيناء ، والبالغ عديدها أربعمائة جندي ، حسب ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الاميركيه ، يوم امس الخميس ٧/٥/٢٠٢٠ . رغم معارضة الخارجيه الاميركيه ، اي المحافظون الجدد المتصهينين وكذلك نتن ياهو وحكومته في نفس الوقت الذي اثقلت كاهل الحكومة المصرية بمليارين وثلاثمائة مليون دولار نفقات تسلح بحجة صيانة واعادة تحديث القوات المصرية ب٤٣ طائرة آپاتشي امريكية
( من طراز اباتشي ( AH 64 E )
كما افاد بان شركتي بوينغ ومارتِن لوكهيد هما اللتان ستوقومان بإجراء عمليات التحديث المشار اليها
وهذا ليس الا دليلاً اضافياً على القرار الاميركي ببدأ الانسحاب الجدي ، من المنطقة ، واستكماله قبل الانتخابات الاميركيه . الامر الذي بات يثير مخاوف وجودية لدى دول المنطقه الوظيفيه ، وعلى رأسها الكيانين الصهيوني والسعودي ، ويجعلها تعيش حالة هلع غير مسبوق ، حيث تجد نفسها ( الدول الوظيفيه ) فجأة في مواجهة قوات حلف المقاومه ، التي تستعد لتنفيذ المرحله الاخيره من هجوم تحرير القدس الاستراتيجي ، وهي بلا غطاء اميركي . اي انها ستكون مكشوفة تماماً امام قوات التحرير التي لن تواجه اية عوائق في الوصول الى القدس وتحريرها ليبقى أهل فلسطين عرباً اقحاحاً ولن يتحولوا الى كنديين ، كما يريد السفير الاميركي الصهيوني ، لدى كيان الاحتلال ، ديفيد فريدمان ، حسب تصريحاته التي ادلى بها في الساعات القليلة الماضية .
4. وانطلاقاً من هواجس الدول الوظيفيه ، المشار اليها اعلاه وبينها الامارات العربيه المتحده ، فقد قامت الجهات الاميركيه المعنيه بمحاولة تهدئة روع حكام ابو ظبي ، عن طريق جلبهم الى واشنطن ، وتوقيعهم على اتفاقية تسلح ضخمه ، تشترى فيها الامارات مدرعات اميركيه بقيمة ٥٥٠ مليون دولار ، وهو ما يعني ان الادارة الاميركيه تقول لهم : هاكم السلاح …ادفعوا ثمنه ودافعوا عن انفسكم بانفسكم، واما نحن فنستودعكم الميدان …!
من جهة اخرى فان الامريكيين بدأوا في تهريب قاذفاتهم الاستراتيجية
من مرمى الصواريخ
الصينية والروسية…
فقد نشر الموقع الالكتروني لمجلة ميليتيري ووتش ( Military Watche Magazine ) الاميركيه ، اليوم ٥/٥/٢٠٢٠ ، موضوعاً حول قيام الولايات المتحده بنشر اربعة قاذفات قنابل استراتيجيه ، من طراز B 1 B في قاعدتها الجويه بجزيرة غوام ، غرب المحيط الهادئ ، وذلك بعد ايّام من سحبها نفس عدد القاذفات من طراز B 52 وإعادتها الى الولايات المتحده .
واهم ما جاء في الموضوع ما يلي :
1. ان القاذفات الاربعه ، المشار اليها اعلاه ، والتي وصلت من تكساس ، قد حلت محل القاذفات الاستراتيجيه النوويه الخمسه ، من طراز B 52 ، التي سحبها سلاح الجو الاميركي ، من قاعدته الجويه في جزيرة غوام بتاريخ ١٦/٤/ ، بعد ان بقيت هناك لمدة ١٦ عاماً كاملة .
2. ان نشر هذه القاذفات الاستراتيجيه يؤكد مواصلة الولايات المتحده الاميركيه سياسة الضغط العسكري ، على كل من الصين الشعبيه وكوريا الشماليه وروسيا الاتحاديه ، ضمن الاستراتيجيه التي تسميها واشنطن : سياسة " حضور القاذفات الدائم " ( Continuous Bomber Presence ) واختصاره هي احرف ( CBP )،في قاعدة جزيرة غوام ، غرب المحيط الهادئ .
3. كما أضاف الموقع ان الصين قد ردت على هذه التهديدات ( الاميركيه ) ، التي مصدرها القاعده الاميركيه في غوام ، باستعراض لعضلاتها العسكريه وذلك من خلال استعراض قاذفاتها الاستراتيجيه ، من طراز H 6 ، القادره على مهاجمة أهدافها المعاديه من بُعد ١٥٠٠ كيلومتر ، وكذلك استعراضها لصواريخ " دونغ فينغ " /معناها رياح الشرق / DF – 26 ، التي يبلغ مداها اربعة آلاف كيلومتر ، ويطلق عليها الخبراء العسكريون اسم : " غوام إكسبرِس " / Guam Express / او قاتل المدمرات والسفن „ Guam Killer „ وهو قادر على تدمير اي سفينة حربيه او حاملة طائرات بضربة واحده . الى جانب قاذفة القنابل الشبح الاستراتيجيه الثقيله ، من طراز H 20 ، وهي قيد التطوير وستدخل الخدمة في القوات الجويه الصينيه لاحقاً ، الامر الذي يشكل تهديداً حقيقياً ، للقوات البحريه والجويه الاميركيه ، في غرب المحيط الهادئ .
4. وهنا تجب الاشاره الى موضوع سابق ، نشره موقع ميليتري ووتش ماغازين ، بتاريخ ١/٨/٢٠١٩ ، تحت عنوان :
٩٠ ٪ من قاذفات B- 1 B اميركا ، في أسطول القاذفات الثقيله ، غير جاهزة / صالحة / للقتال ( اي غير صالحه لتنفيذ عمليات قصف جوي ) . علماً ان سلاح الجو الاميركي يملك ٦٢ طائرة من هذا الطراز . وهذا يعني ، حسب تصريح لقائد القوات الاستراتيجيه الاميركيه ، جون هايتِن ( John Hyten ) نشره الموقع المشار اليه آنفاً ، يعني ان ستة قاذفات فقط ، من بين العدد الاجمالي ، وهو ٦٢ قاذفه ، اي ما يساوي ١٠ ٪ فقط من هذه القاذفات الاستراتيجيه جاهز للعمل . ويذكر القائد اعلاه ان بين اهم اسباب الخلل هو نقص التمويل لتنفيذ اعمال الصيانه .
5. اما الموضوع الذي نشره موقع ميليتري ووتش ماغازين ، بتاريخ ١٨/٤/٢٠٢٠ ، تعليقاً على سحب القاذفات الاميركيه الاستراتيجيه الخمسه ، من قاعدة غوام الجويه ، قبل ايّام من نشر الموضوع الذي اكد فيه الموقع على :
ان القوات الجويه الاميركيه ، وبالنظر الى التهديدات ، المذكوره اعلاه ، مضافاً اليها ما ذكره موقع ميليتري ووتش ماغازين ، بتاريخ ١٨/٤/٢٠٢٠ ، حول الصاروخ الروسي من طراز Kh – 47 M2 كينجال ( kinzhal ) / خنجر بالروسية / ، الذي يمكن إطلاقه من الجو ومن البحر ومن اليابسة ، الى مدى الفي كيلو متر ، ويطلق عليه الخبراء العسكريون اسم : قاتل الحاملات . والقادر على تدمير اكبر حاملة طائرات بصاروخ واحد فقط ، بالنظر الى كل ما تقدم ، فان سلاح الجو الاميركي يعمل حالياً على اقامة قواعد جويه ، لاستيعاب قاذفات استراتيجيه اميركيه ، في استراليا ، وذلك لابعاد قواعد سلاح الجو الاميركي عن مديات الصواريخ الصينيه والروسيه . وكذلك الصواريخ الكوريه الشماليه ، من طراز Hwasong 12 والذي يبلغ مداه ستة آلاف كيلومتر ، التي يمكن اطلاقها على اهداف ثابته ( قواعد عسكريه ) او متحركة كحاملات الطائرات والبوارج الحربيه المختلفه .
لكن " تهريب " البنتاغون لسفنه وطائراته الحربيه الى استراليا لن يحل له مشكلة الصواريخ الروسيه والصينيه والكورية الشماليه القاتله وذلك لان مسرح عمليات أساطيله البحرية والجويه سيبقى نفس المسرح . اي في غرب المحيط الهادئ وبحار الصين المختلفة ، مما سيبقي هذه الاسلحه في مرمى الصواريخ المذكوره اعلاه .
وهو ما تاكد مما نشرته صحيفة " سوهو ( Sohu ) الصينيه قبل ايّام ، حول قيام قيادة الأسطول الروسي في المحيط الهادئ بإرسال مجموعتين تكتيكيتين بحريتين ، الى منطقة قريبة جداً من حاملة الطائرات النوويه الاميركيه ، يو إس اس نيميتس USS Nimitz ومجموعتها القتاليه ، وذلك عندما اقتربت القطع البحريه الاميركيه من السواحل الروسيه ، في محيط مدينة ڤلاديفوستوم الروسيه ، الواقعه شمال غرب بحر اليابان ، حيث قامت المجموعتان البحريتان الروسيتان بتدريبات عسكرية استخدمت فيها الذخيرة الحيه ، بما في ذلك صواريخ كاليبر المجنحة ، وذلك في رسالة تحذيرية نارية واضحةً للقوات البحريه والجوية الاميركيه ( يوجد على متن حاملة الطائرات اعلاه ٨٥ طائرة ) مفادها ان اي اختراق للمياه الاقليميه الروسيه او الاعتداء على السياده الروسيه سيتم الرد عليه فورا. وبأقصى الوسائل .
علماً ان أسطول المحيط الهادئ الروسي قد تم تأسيسه سنة ١٧٣١ ، وهو يضم حالياً قوة بحرية عملاقه ، تزيد على الأربعين قطعة بحرية ، بما في ذلك أسطول من ثماني غواصات ، معززة بعدد غير معروف من الغواصات النوويه . وهذا يعني ان الحل الاستراتيجي الوحيد ، للمأزق الاستراتيجي الاميركي في العالم ، هو إغلاق ما يزيد على الفٍ ، من قواعدها العسكريه المنتشره في العالم ، واعادة جنودها الى بلادهم واعتماد استراتيجية جديدة للامن القومي الاميركي ، تقوم على التعاون المشترك والمنفعة المتبادلة بدلاً من مواصلة سياسة المواجهه العسكرية وفرض العقوبات الماليه والاقتصاديه ، في مخالفة فاضحة للقانون الدولي ، الذي تدعي واشنطن حرصها عليه.
وفِي نفس اطار استراتيجية التخبط الاميركي ، فقد أعلن مسؤول عسكري اميركي ، ان بلاده قد توصلت الى اتفاقية مع كوريا الجنوبيه ، تزيد كوريا بموجبها حصتها من نفقات انتشار القوات الاميركيه على أراضيها ( ٢٨٥٠٠ جندي ) ، الى مليار وثلاثمائة مليون دولار زيادة عن حصتها في العام الماضي .
ولكن ابتزاز الدول الخدميه ، ومنها كوريا الجنوبيه التي تستخدم كمنطلق للضغط العسكري على كوريا الشماليه والصين الشعبيه ، غير مرشح للاستمرار ، خاصة في ظل الأزمة الاقتصاديه والمالية الدوليه ، التي تلوح في الأفق وستنفجر خلال مدة اقصاها ثلاثة اشهر من الآن . وعليه فان الوضع المالي للولايات المتحده سيرغم ادارتها على سحب قواتها ، ولو جزئياً في المرحلة الاولى ، من جنوب شرق آسيا ، ما يفتح الطريق ، امام جمهورية الصين الشعبيه وروسيا الاتحاديه وبقية دول منطقة غرب المحيط الهادئ وبحار الصين واليابان ، لاقامة نظام امن إقليمي متكامل ، يعتمد على احترام استقلال الدول ويستند الى أنظمة القانون الدولي ويمهد لمرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي المتبادَل المنافع بين أطرافه .
وهذا ، في تقديرنا ، هو المخرج المنطقي الوحيد من المأزق الاستراتيجي الكبير ، الذي تواجهه الولايات المتحده ، على صعيد العالم . ذلك المخرج المتمثل في الإقلاع عن السياسه التدميريه ، التي اتبعتها واشنطن منذ نهاية الحرب العالميه الثانيه وحتى الآن ، واعتماد استراتيجيه جديده ، تقوم على تطوير التعاون الدولي السلمي والمتكافئ ، والانطلاق الى ذلك من خلال الشروع فوراً باجراءات تشكيل تحالف دولي لمواجهة وباء كورونا ، بدلاً عن هرطقات مواجهة الصين وايران وفرض العقوبات وتدبير المؤمرات الانقلابيه ضد الرئيس الڤنزويلي وتدبير التدخلات العسكريه في دول اخرى من العالم وان تكف شرها عن الدول والمجتمعات الآمنة وتغلق قاعدتها المتقدمة في غرب آسيا من على ارض ومياه فلسطين مرة واحدة والى الابد .
امر كلما اسرعت اليه واشنطن خففت من خسائرها ، والا فلتنتظر الخراب الكبير والغرق في بحار الظلمات .