د.عدنان عويّد- الحوارنيوز – خاص
لا تقف المجتمعات البشريّة عبر سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين،عند حدود ثابتة، بل هي في حالة تطور وتبدل دائمين. وهذا التطور والتبدل يفرز بالضرورة معطيات حياتيّة جديدة لم تكن موجودة في السابق، تطلبتها حاجات الناس المتنامية. وهذه المعطيات تحمل في جوهرها ما يسمى الحداثة التي تفرض على المجتمع أن يُطبّع حياته معها، إن كانت من نتاجه هذه الحداثة، أو من نتاج مجتمعات أخرى فرضتها ضرورة التواصل الحضاريّ مع الشعوب الاخرى وحاجات الناس الماديّة والروحيّة التي لا تنضب.
إذن الحداثة أو العصرنة هي كل جديد تفرزه العلاقات الاجتماعيّة عبر مراحل التاريخ في المجال الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ أو الفكري والقيميّ. ويتطلب بالضرورة التطبيع مع هذا الجديد من قبل المجتمع، وكل مقاومة له هي ليست أكثر من محاولات إرادويّة أو ذاتويّة ستفشل آجلاً أم عاجلاً، لأن الحداثة تولدها حتميّة التاريخ.
من هذا المنطلق المتعلق بالحداثة وحتميتها، تأتي المحاولات الفاشلة الرامية إلى إيقاف عجلة التاريخ. فكل جديد لا يمكن أن يكون بدعة كما تقول القوى الأصوليّة السلفيّة، ولا يمكن أن تقف الأنظمة الاستبداديّة عدوة الحداثة العقلانيّة أيضاً، دون التطبيع مع هذه الحداثة او الجديد.
من هذا الموقف المنهجيّ تأتى محاولتنا هذه لتبيان الدور السلبيّ الذي تمارسه القوى السياسيّة والدينيّة في النظم الشموليّة في عالمنا العربي لعرقة الحداثة والحد من تبيئها في عالمنا العربي.
المواقف السلبيّة للسياسة والدين في دول عالمنا العربيّ من الحداثة
يقول المثل الشعبيّ إن الناس على دين ملوكها أو حكامها، فإذا كان الحاكم تنويريّاً، وتهمه مصلحة شعبه، فهو يسعى جاهداً لتكريس قيم الحداثة الايجابيّة في دولته ومجتمعه، من علمانيّة وديمقراطيّة وحريّة للرأي، وتكريس لفكرة المواطنة، ودولة المؤسسات، واحترام المرأة ودورها ومكانتها في المجتمع، ونشر التربية والتعليم، والثقافة التنويريّة العقلانيّة والعمل على تطوير البنيّة الاقتصاديّة والسياسيّة في دولته ومجتمعه. والعكس صحيح أيضاً، فعندما يكون الحاكم مستبداً وتملكه شهوة السلطة، فهو يسعى جاهدا إلى نشر الجهل والتخلف بكل أشكالهما بين صفوف شعبه، كما يمارس التسلط على رقاب أبناء هذا الشعب، من خلال تحكمه بالسلطة والتفرد بها، ومحاربة الرأي والرأي الآخر، وتغييب فكرة المواطنة على حساب تسييد سلطة العشيرة والقبيلة والطائفة، مثلما يعمل على نشر الفكر الدينيّ الغيبيّ الامتثاليّ الاستسلاميّ الوثوقيّ ورجالاته. فلو أخذنا مثالاً واحدا من أجل تأكيد هذه الفكرة في عالمنا العربيّ، مع تأكيدنا على نسبيّة القيم التي يتبناها هذا الزعيم أو ذاك ومدى قدرته على تطبيقها في الواقع، ففي مصر على سبيل المثال لا الحصر، نجد أن ما أسس له جمال عبد الناصر في فترة حكمه من قيم ذات توجه علمانيّ حداثي طال الكثير من بنية الدولة والمجتمع، يختلف كثيراً عما اشتغل عليه أنور السادات بعد استلامه دفة الحكم، حيث تصدى للقوى التنويريّة، وفسح في المجال واسعا لنشاط القوى الإسلاميّة الأصوليّة السلفيّة التي لم ترضها سياسات السادات نفسه، فراحت تطالبه بأسلمة الدولة نهائيّاً.
من هذا المنطلق تأتي مقولة عثمان بن عفان (“إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”) صادقة تماماً في تطبيق قيم الدين وشريعته، أو تطبيق قيم الدولة العلمانيّة الحداثيّة ومؤسساتها أيضاً.
عموماً إن الحداثة بكل مفرداتها تفرض نفسها شيئاً فشيئاً حتى على الأنظمة الأكثر قهراً وحصاراً لشعوبها، والحداثة في سيرانها أو جريانها داخل المجتمعات، تشبه برأيي جريان الماء تحت أساسات البناء، ربما لا تظهر نتائجها بشكل مباشر لسنوات طويلة، ولكنها تظهر فجأة وبمساحة واسعة في حياة الشعوب عندما تصل في درجة تحولاتها الكميّة إلى حالة التحولات النوعيّة. والانفجار هنا هو تلك التحولات النوعيّة العميقة في حياة الشعوب، التي قد تأتي لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة أو فكريّة. فهذه المملكة العربية السعوديّة تقدم لنا مثالاً حيّاً عن تلك التحولات التي فرضتها الطبيعة السياسيّة في بنية الدولة مع مجيء وليّ العهد محمد بن سلمان بن سعود، الذي استطاع بقرارات سياسيّة شخصيّة لها طابع سلطويّ أن تُظهر كل المستور من قيم الحداثة لدى الشعب السعوديّ فجأة. فبعد أن كان هذا الشعب مكبوتاً في حريته وإرادته ورغباته والتعبير عن شخصيته، ها هو اليوم يمارس الحداثة وخاصة الاجتماعيّة منها بحريّة بغض النظر عن مدى توافقها مع قيم الحداثة العقلانيّة في جوهرها، وهذا دليل على أن الشعوب تعشق الحداثة والتغيير، وهي قادرة على ممارستها عندما تسنح لها الفرصة. ولكن الأنظمة الشموليّة المستبدة ومشايخ السلطان هم برأيي من يعرقل تطبيقها وتقدمها في حياة الكثير من مجتمعات دولنا العربيّة، التي تحاصر الحداثة أمام فسح المجال واسعاً للقوى الأصوليّة وفكرها الظلاميّ كي ينشطا بحريّة.
*كاتب وباحث من سوريّة.