إقتصاد

التجربة المصرية نموذجا للبنان : زحمة سير أم فساد سياسي؟ (عماد عكوش) 

 

بقلم د. عماد عكوش – الحوارنيوز

تشكل الزحمة المرورية في لبنان معاناة يومية تؤثر على جميع مناحي الحياة ، حيث تحولت الطرقات إلى أماكن للاختناق تعكس إخفاقات تراكمية على مستويات متعددة.

لم تعد هذه المشكلة تقتصر على أوقات الذروة، بل أصبحت سمة لصيقة بالحركة المرورية طوال النهار والليل، ما يتسبب بخسائر اقتصادية واجتماعية وبيئية جسيمة.

تعاني الطرقات في لبنان من ضيق المسارب وعدم كفايتها لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المركبات، حيث يبلغ عدد السيارات أكثر من مليونين ومئة ألف سيارة، بينما تبقى الطرقات على حالها دون تطوير يذكر. كما أن العديد من الطرق الرئيسية، مثل أوتوستراد الدورة – الضبية، وخلدة الدامور لا تعتبر طرقاً سليمة بسبب المحال التجارية التي تقع على جانبيها ، مما يجعل عملية التوسعة صعبة ومكلفة ، حيث قد تصل تكلفة حل مشكلة الاستملاكات إلى عشرة  أضعاف ثمن التوسعة نفسها .

كما أدى غياب نظام نقل عام فعال إلى الاعتماد الكبير على السيارات الخاصة. فوسائل النقل العام محدودة وغير منظمة، وتقتصر على الباصات التي تستخدمها الفئات المتواضعة بسبب انعدام الثقة بهذه الوسائل. بالإضافة إلى ذلك، فإن ثقافة المشاركة في التنقل، مثل ذهاب عدة أشخاص معاً إلى العمل، غير رائجة في لبنان ، وهذا الغياب يجعل الطرقات مكتظة بالمركبات الخاصة ، خاصة مع قدوم 600  ألف شخص إضافي تقريبا في الصيف يستخدمون السيارات .

 

كما تساهم السلوكيات المرورية غير المنضبطة في تفاقم الزحمة، حيث ينتشر الوقوف العشوائي للمركبات على الأرصفة وفي أماكن ممنوعة، بالإضافة إلى السير عكس السير وعدم احترام إشارات المرور وهنا يُلاحظ غياب تام لتواجد عناصر الأمن بشكل دائم على الكثير من الطرقات ، فضلاً عن عدم وجود خطة شاملة وفعالة لتنظيم حركة السير .

تزداد الحركة المرورية بنسبة 15  إلى 20%  خلال فصل الصيف بسبب قدوم المغتربين والسياح، الذين يستأجرون السيارات أو يستخدمون سيارات خاصة، ما يزيد العبء على الطرقات .  كما أن الظروف الجوية الصعبة مثل العواصف تؤدي إلى تفاقم الازدحام في بعض الاحيان نتيجة تفجر شبكة الصرف الصحي وتجمع مياه الامطار ، حيث لا توجد خطط طوارئ فعالة لإدارة الحركة المرورية في مثل هذه الظروف ، وهنا يلعب الفساد وهو أحد الأسباب الجذرية لتدهور البنية التحتية للطرقات دورا اساسيا في تراكم المشكلة . فغياب الرقابة والمحاسبة أدى إلى تنفيذ مشاريع دون معايير الجودة المطلوبة، أو عدم إكمالها في الوقت المحدد حيث تعتمد الحلول المقدمة لأزمة المرور على الترقيع بدلاً من التخطيط الشامل طويل الأمد. فغياب الرؤية الاستراتيجية يجعل المشاريع المنفذة غير قادرة على مجاراة النمو المروري المتزايد. كما أن دراسة أثر الحركة المرورية عند إنشاء المباني أو المجمعات التجارية لا تتم بالشكل المطلوب، مما يساهم في زيادة الازدحام .

ما هي الحلول؟

 

بالنسبة للحلول يمكن أن يشكل تطوير شبكة سكك حديدية ومترو أنفاق حلاً جذرياً لأزمة النقل في لبنان. تاريخيا كان لبنان يمتلك شبكة سكك حديدية تعود إلى العهد العثماني وعهد الانتداب الفرنسي، ولكنها توقفت بسبب الحرب والإهمال. إعادة إحياء هذه الشبكة وتطويرها لتشمل مترو الأنفاق يمكن أن ينقل نسبة كبيرة من الركاب والبضائع، ما يخفف العبء عن الطرقات. فعلى سبيل المثال، في مصر، يُنقل 2.5 مليون راكب يومياً عبر مترو الأنفاق، مع خطط لزيادة هذه السعة إلى 3.5 مليون راكب يومياً ، كما أن مشاريع المونوريل والقطار الكهربائي في مصر تظهر كيف يمكن لهذه الأنظمة أن تربط المناطق وتخفف الازدحام بشكل ملحوظ.

ان نقل البضائع بين المحافظات يواجه تحديات كبيرة، خاصة حول مرفأ بيروت، حيث تؤدي حركة الشاحنات إلى ازدحام مروري خانق على مداخل ومخارج المرفأ .

يمكن تبني مقترحات مثل إنشاء مناطق لوجستية خارج المدينة لتخفيف العبء عن الطرق الداخلية، وتحسين تنظيم حركة الشاحنات عبر تنسيق أوقات الدخول والخروج. كما أن تفعيل الاتفاقيات الإقليمية الموجودة يمكن أن يحسن حركة النقل العابر، ما يخفف الازدحام على الطرق الداخلية.

ان موازنة وزارة الاشغال والتي كانت تبلغ بشكل متوسط وعلى مدى عشرات السنوات حوالي 500 مليون دولار تقريبا، اكثر من خمسين بالمئة منها هي نفقات توسعة الطرقات الرئيسية والاستملاكات المتعلقة بالتسوية ، ان هذه الموازنة كان يمكن من خلالها تبني مشروع استراتيجي للنقل يتبنى انشاء سكة حديد على كامل الاراضي اللبنانية ، اضافة الى مترو خاص ببيروت وضواحيها ما يرفع الضغط وبشكل كبير عن حركة الطرقات الرئيسية .

ان إنشاء نظام نقل عام منظم وموثوق هو أمر حيوي لتخفيف الازدحام يمكن ان يشمل تطوير شبكة باصات فعالة ايضا ، وتشجيع ثقافة المشاركة في التنقل (car pooling)، وتحسين ثقة المواطنين بوسائل النقل العام. كما أن فرض قوانين صارمة على الوقوف المخالف وإزالة العوائق مثل محال “الناولني” من على جوانب الطرق يمكن أن يحسن انسيابية الحركة  .

يمكن للتقنيات الحديثة أن تلعب دوراً هاماً في إدارة الحركة المرورية. فتحسين إشارات المرور الذكية، وتطبيق أنظمة مراقبة المركبات المخالفة، واستخدام تطبيقات التنقل لتجنب الطرق المزدحمة، كلها أدوات يمكن أن تساهم في تخفيف الزحمة. بالإضافة إلى ذلك، تحسين التنسيق بين الوزارات المعنية ووضع خطط شاملة لإدارة المرور يمكن أن يوفر حلاً مستداماً .

ان الوضع السياسي المتذبذب والأزمة الاقتصادية الخانقة يعيقان تنفيذ المشاريع الكبرى، لكن يمكن تبني خطة عشرية يمكن من خلالها توفير برنامج عمل كامل لأنشاء شبكة نقل رخيصة، لكن غياب الاستقرار الحكومي وعملية التحاصص للصفقات التي تقوم بها الحكومة ، وما يمكن ان يؤدي له انشاء شبكة نقل عام من توفير على جيوب المواطنين وبالتالي انخفاض استهلاك السيارات ، قطع غيار السيارات ، صفقات ترقيع الطرقات ، واستملاك اراضي باسعار مرتفعة ، نقابات لا تعرف مصلحتها في معنى خلق شبكة نقل حديثة ،  والاستفادة من جوانب الطرقات الدولية لانشاء مراكز استهلاكية ،  يجعلان من الصعب الاتفاق على تمويل مشاريع البنية التحتية الطموحة.

لقد استثمرت مصر كمثال بشكل كبير في مشاريع النقل الجماعي، ما أدى إلى خفض ملحوظ في الازدحام المروري وقد شملت هذه المشاريع:

• مترو الأنفاق: ينقل 2.5 مليون راكب يومياً، مع خطط للتوسع إلى 3.5 مليون .

• المونوريل: يربط الضواحي بالمركز بطاقة استيعابية تصل إلى 43 ألف راكب/ساعة .

• القطار الكهربائي الخفيف (LRT): يربط المدن الجديدة بطاقة مليون راكب يومياً .

• القطار السريع: سيربط 80 مدينة مصرية بطول 2000 كم .

الآثار الإيجابية على الازدحام والتكاليف

أدى بهذه المشاريع إلى:

• توفير الوقت: تقليل مدة الرحلات بشكل كبير، مثل رحلة العتبة-الأهرام التي أصبحت 17 دقيقة فقط .

• خفض استخدام السيارات الخاصة: تحول الكثيرون إلى النقل الجماعي، مما قلل عدد المركبات على الطرق .

• تخفيض التكاليف: توفير في استهلاك الوقود وتقليل التكاليف التشغيلية للمواطنين والدولة .

يمكن للبنان الاستفادة من التجربة المصرية في :

• التخطيط المتكامل: ربط مختلف وسائل النقل في شبكة واحدة.

• التمويل الحكومي: تمويل المشاريع من الخزانة العامة وبشكل برنامج رغم التحديات الاقتصادية.

• البعد الاجتماعي: تقديم أسعار مخفضة للفئات الضعيفة لضمان عدالة الوصول للخدمات .

ان أزمة الزحمة المرورية في لبنان هي نتيجة تراكمات من الإهمال وسوء الإدارة والفساد. الحلول تتطلب رؤية شاملة وإرادة سياسية حقيقية لتنفيذ المشاريع الطموحة ، والا فإن البديل هو استمرار المعاناة اليومية والخسائر الاقتصادية والبيئية المتزايدة.

يجب أن يكون هناك تحول جذري في النهج، من الترقيع إلى التخطيط الاستراتيجي، ومن الفردية إلى ثقافة المشاركة، ومن الفساد إلى الشفافية والمحاسبة من خلال اعتماد خطة وطنية شاملة ومستدامة – مستفيدة من نجاحات تجارب الدول الأخرى.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى