نبهان كيوان – الحوارنيوز- خاص
نقرأ في كتاب “الخميرة” للمربي الشيخ غالب سليقا، فنسافر من بادية الشام إلى جبل لبنان، من جبل الشيخ إلى جبل العرب، ومن روابي فلسطين إلى روابي الجولان، وبعدها ننتقل إلى وادي التيم وغوطة الشام ومنها إلى صحراء الشويفات وتلال الغرب من عبيه إلى عرمون وغيرها من ضياع وقرى ودساكر.
في تلك الرحلة الطويلة نعبر جبالا ووديان وهضابا وسهولا، نتنشق عبير أزهار الربيع، نشم عطر الياسمين والفل، أزهار القندول والوزال، نسرح في رحلة مع انسانية الإنسان. مع مفكرين وأدباء وفلاسفة كبار ومع أسماء مجهولة تمتعت بالحكمة والمعرفة العملانية.
من المتنبي إلى نعيمة وجبران من النكدي إلى المعلم كمال جنبلاط إلى مشايخ خلوات البياضة الشريفة وغيرها من أماكن العبادة والعباد فيها. فالتاريخ عند الأستاذ غالب ليس تاريخ الحروب والغزوات أو تاريخ القادة والزعماء، أو تاريخ إحتلالات وقهر للشعوب. التاريخ عنده تاريخ الناس كل الناس، العاديين والبسطاء والمثقفين والحكماء، تاريخ الشعب الكادح وكباره وشيوخه وحكماءه، عمال وفلاحون، مزارعون وصناع مهرة، التاريخ عند الشيخ غالب هو ما صنعه هؤلاء وحفظوه في حكاياتهم المتناقلة شفويا وما حفظوه في سهراتهم ومضافاتهم، أو على مصطبات بيوتهم, يجتمعون بعد نهار من التعب ليروي كل واحد ما توفر لديه من خبرة ومن حكايا وقصص وحكم.
عندما أهداني الشيخ الصديق والذي شرفني بلقب الصديق مؤلفه الجديد “الخميرة” كنت أسأل نفسي: ماذا في جعبته بعد كل تلك الدرر والجواهر التي اتحفنا بها. وعندما بدأت قراءة الكتاب، وجدت أن بحر الشيخ غالب لا ينضب ولا يشح، ولا يكرر نفسه فصناعته دائما متجددة عبر بحثه المتواصل عن مواضيعه وحكاياته وما ينتشله من اعماق التاريخ ومن افواه العارفين وقصصهم واخبارهم، وقد تكون من ناس عاديين فيدقق فيها حتى تنجلي على حقيقتها.
والكاتب هنا لا يبخل على معرفة الحقيقة في تلك المرويات فهو يضحي بوقته وجهده ولو كلفه ذلك الإنتقال من منطقة إلى أخرى ومن ضيعة إلى مدينة باحثا عن حقيقتها كي تكون تلك الأحداث واقعية وحقيقية. قد نكون سمعنا ببعضها، ولكننا حين نقرأها بقلم مبدع كقلم الكاتب هنا. نشعر وكأننا نعرفها لأول مرة، وذلك عبر أسلوبه السلس الراقي وإضافاته المبدعة، فيشدنا إليها وكأننا نراها على شاشة تلفاز أمامنا.
حاولت أن أتوقف عن قرأءة “الخميرة” مرات عديدة، ولكنني فشلت فكانت مواضيعها المختلفة تشدني إلى المزيد من القراءة، ولم يكن يوقفني عن متابعتي إلا طرقات على الباب لأحد الزوار، أو طلبات العائلة والتي تتكرر عدة مرات فأغلق الكتاب لأتفرغ لتللك الواجبات. وكنت أعده بأنني سوف أعود إليه في حال فراغي من عملي. إنها متعة أن تسافر مع الزمن، مع تاريخ قرانا، مع حكايات أهلنا ومجتمعنا وتغوص في هذا البحر الهادىء تلتقط حكمة من هنا، وعبرة من هناك, ومتلا من إحدى الزوايا، وأبيات شعر تعبر عن واقع حال معين. وطرفة خفيفة الظل تنعش بها أنفسنا المتعبة.
أقوال حكماء وفلاسفة تختصر كثير من همومنا وآلامنا وأحلامنا. “الخميرة” ليس كتاب تاريخ بما تعنيه الكلمة أو كما عرفناها, ولا كتاب أمثال وحكايات شعبية ضد المحتلين والغاصبين، وليس كتاب دين أو روحانيات، أو كتاب توفيقي بين الرسالات السماوية، كما أنه ليس من الأدب السياسي أو الأدب الشعبي، أو كتابة مذكرات بل هو تلك العناوين. جمعها الأستلذ غالب في مؤلف واحد أسماه “الخميرة” ولا أخفي دهشتي وإعجابي، كيف إستطاع أن يوجد ما يزيد عن الماية قصة وعنوان كل واحد مختلف عن الآخر تحت عنوان واحد هو “الخميرة” فتلك الأبواب المتعددة لا يصلح لها سوى ذلك العنوان البديع “الخميرة”.
وفقكم الله شيخ غالب في كل ما تقومون به وإلى إبداع آخر جديد.
زر الذهاب إلى الأعلى