د. عدنان عويّد – الحوارنيوز خاص
شكلت الأيديولوجيا الدينيّة في تاريخ الخلافة العربيّة الإسلاميّة منذ قيامها حتى سقوطها على يد اتاتورك (1924)، أكثر أشكال الأيديولوجيا حضوراً، حيث أصبح الدين منظومة القانون التشريعي، والمذهب السياسي، والتعاليم الأخلاقيّة، هذا دون إنكار لدور القوانين الأخرى الوضعيّة، والمستمد أكثرها شرعيته من الدين نفسه التي فرضها التطور التاريخي للمجتمع عبر امتداد سيرورة وصيرورة حكم الخلافة الإسلاميّة، أو تلك القوانين التي فرضها الخارج على الخلافة العثمانيّة في نهايات حكمها كمضامين خط “كالخانة” وخط “همايون” على سبيل المثال لا الحصر. (1).
نعم لقد مارس الإسلام عبر تاريخه تأثيراً عميقاً على الفكر السياسيّ في الشرق المسلم عموماً، وعالمنا العربيّ على وجه الخصوص، وذلك من خلال اضطلاع الإسلام منذ البداية بدور القاعدة الأيديولوجيّة للخلافة الإسلاميّة التي بدأت إرهاصاتها الأوليّة مع السقيفة.
أما بالنسبة للعقيدة الإسلاميّة والفكر الإسلامي المشتق أساساً من صلب هذه العقيدة، كالفقه وعلم الكلام بشكل عام، وتأثيرهما على وعي الشعوب المسلمة، فقد تضمنت القيم المعنويّة والأخلاقيّة ومعايير السلوك في الحياة العائليّة والمجتمع والاقتصاد. كما جرى استخدام الفكر الدينيّ والتقاليد الدينيّة لغايات سياسيّة مختلفة من قبل قادة الحركات التي قامت ضد استبداد القوى الحاكمة في هذه الخلافة، في العصور الوسطى، كحركة القرامطة والحركة الخرميّة والبابكيّة والزنج، وغيرها من الحركات التي اتخذت من الدين سلاحاً أيديولوجيّا لمقاومة السلطة الحاكمة، وخاصة الحركات التي دافعت عن آل البيت وأحقيتهم بالخلافة، كثورة “المختار الثقفي والأشعث وزيد بن عليّ” وغيرها. مع تأكيدنا أن مسألة اعتماد المعارضة على الأيديولوجيا الدينيّة ظلت قائمة حتى تاريخنا الحديث والمعاصر، إن كان على مستوى مقاومة الاستعمار أو مقاومة الأنظمة الاستبداديّة الحاكمة في الدول العربيّة بعد نيلها الاستقلال. وهذه المسألة لها أسبابها وطابعها الاجتماعيّ والاقتصاديّ وخصوصياتها الثقافيّة، أو بشكل عام هي انعكاس للوجود الاجتماعيّ وأساليب الإنتاج السائدة إن كان تحت مظلة الخلافة الإسلاميّة، أو تحت مظلة الأنظمة العربيّة المعاصرة في عالمنا العربي، كدول أو مجتمعات متعددة الأنماط الإنتاجية.
إن سيادة الفكر الدينيّ وانتشاره وتأثيره على حياة الفرد والمجتمع العربي، يعكس السمات الخاصة لأشكال الملكيّة وأنماط الإنتاج المتداخلة، كما يعكس خصوصيّة مزيج الأشكال المختلفة من التطور التاريخي. فتعايش وتركيب العناصر الاجتماعيّة لأنماط الإنتاج وتعددها ومختلف مستويات تطورها، لا يمكن لها إلا أن تترك بصماتها على الطريقة التي يؤثر فيها الدين على المجتمع وحركته.
إن تطور المؤسسات الدينيّة، والصلات السيكولوجيّة (النفسيّة) وقوالب الوعي الجماهيريّ الدينيّة التقليديّة، وتكوين الفكر السياسي، لا بد لها أن تتحدد وتتأثر في شكل الوجود الاجتماعيّ السائد، أي في درجة قوة أو ضعف قوى وعلاقات الإنتاج السائدة. لذلك فإن الفترة الانتقاليّة في المجتمع التقليدي ما قبل الرأسماليّ إلى المجتمع الحديث، ما تزال جاريّة في عالمنا العربيّ رغم عوامل عرقلتها الكثيرة من الداخل والخارج معاً، وهذا يعني أن العناصر الدينيّة والعلمانيّة في حركات الاحتجاج الاجتماعيّ والسياسيّ وكذلك في الوضعيّة الأيديولوجيّة ستظل متعايشة لفترات طويلة قادمة.
إن عمليّة إحلال الأفكار العلمانيّة محل الدينيّة، هي عمليّة موضوعيّة تماماً، وتجري على نحو متفاوت. إن ما حدث من تطور في العالم العربيّ بعد الاستقلال لم يؤدِ بعد إلى إقصاء التقاليد الدينيّة غير العقلانيّة كاملاً، بل سارت الأمور نحو تركيب خاص, يجمع تحت مظلته العوامل الدينيّة والعلمانيّة معاً. ومع ذلك فقد تعرض الدين ذاته إلى تغيرات باتجاهين: الأول ليبراليّ، والثاني أصولي في مجرى التطور العالمي للنظام الرأسماليّ وتأثيره على عالمنا العربي، في الوقت الذي ظلت فيه البرجوازيّة العربيّة الكومبرادوريّة وحتى الوطنيّة منها عاجزة عن تحقيق إعادة صياغة جديدة للدين تتفق وطموحاتها وحاجات العصر معاً. ويأتي في مقدمة هذا التغيير الطموح لفصل الدين عن الدولة.
لقد ظل الفكر السياسيّ مرتبطا في عالمنا العربيّ بالدين طوال فترة الخلافة الإسلاميّة كما أشرنا في موقع سابق، بل هو ارتبط أساساً بالدين منذ بدء الدعوة، فالدعوة في جوهرها وأهدافها هي فعل سياسيّ يرمي إلى تغيير البنية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة لمجتمع الجزيرة أولاً وللعالم ثانيّاً، تغييراً يتفق ومبادئ الدين الإسلاميّ الذي بشر به الرسول، لذلك اندمج الدين والسياسية لتحقيق هدف مشترك ذي طابع عقيدي هو (التوحيد الإلهي) و كذلك التوحيد (المجتمعي), كما كان له طابع أخلاقيّ هو (نشر قيم العدالة والمساوة والمحبة والتسامح). ولكن علينا أن نميز هنا بين السياسة في مشروع (الدعوة الإسلاميّة)، وبين مفهوم (الدولة) كدولة لها أسسها ومؤسساتها وحاملها الاجتماعي في الدعوة ذاتها وخطابها السياسي، هذه الدولة التي لم تكن محسوبة على الخطاب الإسلامي برأيي طوال فترة الخلافة الاسلاميّة، وأن كل ما كان يتعلق بجانبها السياسي هو التركيز على “الخليفة” وشروط وآليّة تنصيبه وسماته وخصائصه، كما ذكرت كتب الأحكام السلطانيّة المتعلقة بالشأن السياسي للماوردي وغيره. دون أن نعدم بعض الاشارات هنا وهناك إلى ولاة الأمر وسماتهم وخصائصهم أيضاً.
إن الدولة في مفهومها وجوهرها، والانعطافه التاريخيّة الهامة في تمثل العرب لمفهوم الدولة الحديثة التي بشر بها الفكر الوضعيّ، يرجع إلى تاريخ عصر النهضة الأوربيّة وتأثر الشرق عموما بهذه النهضة ومنه عالمنا العربي، إي بتأثير الاستعمار الأوربي ومشروعه الرأسمالي والثقافي والسياسي الطامح إلى إعادة هيكلة العالم على صورته وتحقيقاً لمصالحه، فهذه العوامل لعبت دوراً كبيراً في التأثير على بنيّة الخطاب السياسي في عالمنا العربي، هذا التأثير الذي تجلى عمليّاً مع قيام حركة “كمال أتاتورك” الذي الغى نظام الخلافة بكل عُجْرِهِ وَبُجْرِهِ، ليتبنى مفهوم الدولة الحديثة، التي جاء الاستعمار الأوربي المحتل لبلادنا ليؤسس لها في وطننا العربي شرقاً وغرباً.
نعم.. إن مركب السمات التقليديّة والحديثة في الأنموذج الرأسماليّ العربي الكومبرادوري في بنيته الهجينة والضعيفة والمرتبطة بالغرب، قد انعكس على عملية التطور الارتقائي للفكر السياسيّ العربيّ المعاصر. وذلك على اعتبار أن الفكر في عالمنا العربي الذي تأثر بالفكر الحداثي الغربي لم يلغ الفكر الديني، بل على العكس استمر هذا الفكر بشكل قوي وفاعل، وغالباً ما سيس من قبل الغرب ذاته خدمة لمصالحه كتشجيعه للفكر الصوفيّ الطرقيّ من جهة، مع سعة حضور هذا الفكر الديني أصلاً في وعي أفراد الشعب، بوصفه عاملاً محدداً لثقافة هذا الشعب ولم يزل من جهة ثانيّة. لذلك نقول من الناحية السياسيّة في هذا الاتجاه: إن اتخاذ الفكر الديني سابقاً كأيديولوجيا بيد المعارضة والسلطة معاً، ظل سائداً في العصر الحديث, فمثلما كان الوعاظ الدينيون أول الأيديولوجيين الذين اختلط في تفكيرهم الأيديولوجي هذا جملة النظرات الأخلاقيّة والفلسفيّة والسياسيّة، كذلك ظل يقوم بهذه المهمة القطاعات العلمانيّة، إن كانت داخل السلطة أو خارجها، فالدين ظل بالنسبة لها – أي القطاعات العلمانيّة – أداة استخدمته لهدفين هما: المتاجرة به لسحب البساط من تحت القوى السياسيّة الدينيّة الحاملة له أولاً، ثم للمتاجرة به من قبلها لكسب الشارع المتدين والوصل إلى السلطة أو الاستمرار بها ثانياً. لذلك يمكننا القول: إن كلاً من الانفصال والترابط الجدلي بين الأيديولوجيا باتجاهيها الدينيّ والوضعيّ، وبين الوعيّ الجماهيريّ، يرجعان إلى فترة تشكل الوعي أو الفكر السياسيّ, ويميزان المراحل التاريخيّة اللاحقة لتطور هذا الفكر أيضاً، وهذا الترابط لمسناه بعمق في ما سمي بثورات الربيع العربيّ.
طبيعة الفكر السياسي الحديث والمعاصر:
على العموم تتكشف طبيعة الفكر السياسي الحديث والمعاصر في وجهات نظر أيديولوجيّة داخل عالمنا العربي، أنها تدور حول علاقات الفرد بالمجتمع، والموقف من التقاليد الدينيّة، ومن العلمنة، ومن النظرة إلى العالميّة الرأسماليّة أو الاشتراكيّة أو الطريق الثالث للتنمية، وإلى مسألة التحرر الوطني والثورات الاجتماعيّة… وغير ذلك. هذا ويتجلى مستوى التطور الثقافيّ في عالمنا العربي في السلوك السياسي الجماهيري، والمواقف الأيديولوجيّة التي تستخدمها مختلف القوى الاجتماعيّة في تعبئة الجماهير، هذه التعبئة التي تتوقف بالضرورة على الظروف الموضوعيّة، مثل مرحلة التطور التاريخي للمجتمع، ومستوى البنية الاجتماعيّة والاقتصاديّة وعلى الخصائص الذاتيّة للقادة أو القوى الحاكمة. علماً أن خصوصيات الهويّة الثقافيّة يمكن لها أن تجعل فهم الجماهير للشعارات السياسيّة والأيديولوجيّة لهؤلاء القادة أكثر صعوبة أو أكثر يسراً. لذلك لا بد من أخذ التمايزات الحضاريّة بين مختلف المناطق والبلدان بعين الاعتبار. لقد أشرنا في موقع سابق إلى عاملين أساسيين ساهما في استمراريّة قوة الخطاب الدينيّ في عالمنا العربيّ وهما: الاستعمار والقوى الحاكمة المستبدة أولاً، ثم المعارضة لها ثانياً, ويأتي لدينا هنا عامل آخر هو بطء وتيرة بناء المجتمع المدني من جهة ثالثة.
إن المجتمع المدني بطبقاته الحديثة وبناه السياسيّة الحديثة، لم يخرج إلى الوجود ببعض تجلياته إلا مؤخراً، أي بعد الاستقلال من المستعمر. لذلك في مثل هذه الظروف ظلت الأشكال القروسطيّة من الاحتجاج الاجتماعيّ والساسيّ راسخة بثبات في عقول معظم أبناء المجتمع العربي. و(ثورات الربيع العربي) أنموذجا حياً لذلك. فالقادة التقليديون من مشايخ الدين أو من بعض شيوخ القبائل وبعض الرجالات الوطنين من أبناء الطبقة البرجوازيّة الوطنية هم من تزعم حركة التحرر الوطنيّة في بداية عهدها، وقد استطاع قسم كبير منهم أن يحافظ على وجوده بعد الاستقلال، وساهم في تشكيل أحزاب وطنيّة وصلت إلى السلطة وقادة شؤون البلاد. ولكن ظل للدين دوره المتميز في أشكال الصراع السياسي على السلطة بعد التحرر من المستعمر, مثلما ظل حملة خطابه الأيديولوجي ومن السياسيين بشكل خاص، يمارس نشاطه وبفعالية في حركة التحرر الوطني، وخاصة ضد القوى السياسيّة التي استلمت السلطة وهمشت الحامل الاجتماعيّ للخطاب الإسلامّي كـ (الاخوان المسلمون) أنموذجاً، الأمر الذي جعل من هذه القوى الدينيّة السياسيّة تشكل عقبة كأداء في وجه هذه القوى، الحاكمة لترفع في وجهها شعار (الحاكميّة لله) في كل مرة تجد فيها الفرصة سانحة، وهذا هو تاريخ الإخوان منذ تشكله، وموقف القوى الأصوليّة الجهاديّة التي راحت تتشكل مع انتهاء النظام الاشتراكيّ العالمي بعد سقوط الاتحاد السوفيات، ومع قيام الثورة الإسلاميّة في إيران. وما يجري اليوم على الساحة العربيّة في تونس والجزائر ومصر وليبيا والعراق وسوريّة يؤكد ذلك. أي يؤكد الدور الفاعل للخطاب الإسلامي في تاريخنا الحديث والمعاصر. وهذا ما يدفعنا للوقوف قليلاً أمام الحركات الأصوليّة الجهاديّة ومشروعها الديني، حيث احتلت هذه الأصوليّة الدينيّة الإسلاميّة في بلدان كثيرة مواقع مؤثرة في الحياة الاجتماعيّة، وخاصة في تبني انصارها الدعوة إلى ضرورة العودة إلى القيم الإسلاميّة التي نادى بها الرسول والسلف الصالح بعده، وهي التي على أساسها قامت الخلافة الإسلاميّة وسيطرت على مساحات كبيرة من العالم, ولكن نسيان المسلمين كما يدعون لهذه القيم والابتعاد عن تطبيقها في حياتهم الخاصة والعامة هي التي أدت إلى انهيار هذه الخلافة والأمّة معاّ، وبالتالي تخلفها وتراجعها أمام شعوب ودول العالم، لذلك لا حل إلا بالإسلام، وخاصة بعد أن فشلت التجارب السياسيّة والرؤى الأيديولوجيّة للاشتراكيّة والقوميّة في تحقيق النهضة والتقدم.
هذا وقد تمثلت هذه الحركات فكريّاً، الخطاب الإسلامي في توجهاته الإخوانيةّ، والوهابيّة، والخمينيّة. وهي حركات يتجسد مثالها الاجتماعي والسياسي في دولة ثيوقراطيّة لا حدود لها, ينضوي تحت لوائها كل المسلمين الذين تجمعهم عقيدة الإسلام, وهم يريدونها دولة خالية من تأثير الغرب والشرق معاً كحضارات، ومن تأثيرات الرأسماليّة أو الاشتراكيّة أو الشيوعيّة كأنظمة. هذا وقد ظهر في هذه الحركات شخصيات كاريزميّة لعبت دوراً كبيراً في الترويج لمشروع هذه الحاكميّة والتأثير على وعي الجماهير المسلمة، كالغنوشي والترابي والبوطي والخميني وباقر الصدر والقرضاوي وسيد قطب وغيرهم الكثير ممن كان للغرب والقوى الحاكمة العربيّة الدور الكبير في السماح لبعضهم بنشر أفكار الحاكميّة عبر منابر الجوامع وقنوات التلفاز العربيّة والعالميّة. وهي في الحقيقة شخصيات تعادي العلمانيّة وتدعوا إلى الفرقة الناجية، واللعب على الورقة الطائفيّة والمذهبيّة، الأمر الذي جعل تأثيرها يمتد إلى ثورات الربيع العربي التي تحولت إلى ثورات طائفيّة ودينيّة، أكثر منها ثورات كانت تدعي المواطنة وتحقيق العدالة والمساوة. والأهم الحرية.
*كاتب وباحث من سوريّة
الهوامش:
1- (راجع كتابنا التبشير بين الأصولية المسيحية وسلطة التغريب دار المدى عام 2000,بحث الاصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر.).