البطريرك الغاضب:لا دولة ولا سلطة .. ولا أمن سليم
كتب واصف عواضة:
يجلس البطريرك الماروني بشارة الراعي ،ليس سعيدا ،على شرفة الصرح البطريركي في الديمان من أعمال قضاء بشري ،يحيط به نقيب وأعضاء مجلس نقابة المحررين وزملاء من الشمال حضروا كعادتهم الى الصرح المتربع على علو 1500 متر فوق وادي قنوبين ،الوادي المقدس لدى الطائفة المارونية ،الذي يحتضن رفاة العديد من البطاركة ،ويحمل إرثا نضاليا على مدى أربعمائة سنة على حد قول سيد الطائفة.
الجلسة الهانئة ظهر يوم من أيام آب اللهاب تحمل كل أسباب الإنشراح:الهواء العليل،الاستقبال الطيب،المشاهد الخلابة ،مناظر القرى المحيطة المجللة بقرميد المباني،الأشجار المتنوعة أرزا وشوحا وصنوبرا وأعنابا ،وصخرة الدبس المطلة على الوادي ،كل ذلك يشدك لالتقاط الصور التذكارية.
لكن البطريرك غاضب..غاضب من أحوال البلد وحكامه ورعاته ودولته وسلطته ..وبعض أمنه أيضا. لم يكن غبطته بحاجة لمن يحرك هذا الغضب،لدرجة كدنا نشعر كإعلاميين بتوق الى تهدئة هذا الغضب .
فما كاد النقيب جوزف القصيفي يلقي كلمة لا تخلو من البلاغة والفصاحة في إرث البطاركة ،حتى تولى البطريرك الحديث بهدوئه المعهود مرحبا "بكم بفرح كبيرفي الديمان التي تحمل معاني كبيرة على مشارف هذا الوادي المقدس ،لا سيما أننا نستعد اليوم لمئوية اعلان لبنان الكبير"(احتفال في بكركي في المناسبة في الثلاثين من آب الجاري).
لم يدم هدوء البطريرك طويلا: "نحن اليوم نعيش بقلق كبير ونعود الى الوراء اشواطا، ونتأسف على دماء الشهداء التي اريقت لان المسؤولين لم يتعلموا ويأخذوا العبر من كل ما حصل"..
يستطرد البطريرك: المشكلة ان اتفاق الطائف لم يطبق بنصه وروحه، وتبين انه يتضمن ثغرات عديدة تشبه طريقا معبدة، لكنها تحوي حفرا كثيرة. وليس عندنا اليوم سلطة تحكم، والبرهان حادثة قبرشمون المؤسفة التي عطلت الحكومة والتي لا تزال تتفاعل وتتظهر الخلافات حول المحاكم وحول صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ومن يدعو لعقد مجلس الوزراء، والمسؤولون يواصلون مخالفة الدستور والقوانين".
يذهب البطريرك الى أبعد من ذلك:"العالم كله ينظر الينا .ينظر الى لبنان لدعمه، وعقدت عدة مؤتمرات من روما الى باريس وبلجيكا من اجل مساعدة لبنان، واليوم "سيدر" لدعم الجيش والاقتصاد والنازحين، والمسؤولون عندنا غير آبهين، فلا رؤيا ولا تطلع الى البعيد، أقروا الموازنة مشكورين ولكنها لا تتضمن قطع حساب ولا اصلاحا اقتصاديا، ونعود الى موضوع المحاكم، فهل بتنا في دولة مزارع وطوائف ونافذين يسير القضاء بحسب الاهواء، واذا اعجبنا الحكم نرضى به وان لم يعجبنا نرفضه، واذا استلمنا منصبا قضائيا او امنيا او اداريا نتحكم بالناس من خلاله؟ وهل يجوز ان يأكل القوي الضعيف؟ وكيف يمكن ان نرضى بما يحصل على الصعيد الامني؟
وهنا يبلغ الغضب حده الأقصى لدى البطريرك فيفاجئ مجالسيه بنبرة لم يعهدوها من قبل:
"اريد ان اوجه نداء الى مدير عام قوى الامن الداخلي اللواء عماد عثمان.كيف لهم ان يقبلوا فبركة ملفات لاشخاص من دين واحد ؟هل نحن في دولة الطوائف والمذاهب والنافذين؟..حكم القضاء يسري مفعوله هنا ولا يسري في مكان آخر؟..هناك من هو فوق القضاء وفوق المحاكم.انا اعمل في سلطة ادارية او عسكرية،هل مسموح لي ان "اتحطت "على اناس من دين معين او مذهب معين؟ كيف يجوز لنا ان نقبل ذلك ونخالف القوانين والدستور وكل المبادئ الاساسية،وهذا يعني ان القوي يأكل الضعيف. هذا الذي يحصل اليوم في لبنان. كيف لنا ان نقبل اليوم وعلى المستوى الامني،ومن هنا اوجه النداء الآن الى اللواء عماد عثمان ،كيف يوافق على فبركة ملفات كل يوم في حق فئة من دين واحد ومذهب واحد. نحن مع القانون والعدالة للجميع،فكيف يسمح بتعذيب الناس في اقبية الامن الداخلي لدى شعبة المعلومات؟ ومن اين لهم الحق بتعذيب الناس ؟ هذا شيء لم يعد يطاق ولن نتحمله ابدا .. هذه ليست دولة ،الكبير يأكل الصغير،والقوي يأكل الضعيف،وهذا غير مقبول على الاطلاق ،ونتيجة كل ذلك فقد الشعب كل الثقة،والدليل ان 51بالمائة من الشعب اللبناني لم يشارك في الانتخابات النيابية الاخيرة،والذين شاركوا هم المنتمون الى الاحزاب ،وكانوا مجبرين من احزابهم على المشاركة. اليست هناك قيمة لهؤلاء الذين لم يشاركوا في الانتخابات؟ اليس لهم الحق بأن يكون لهم وزير في الحكومة؟
يفاجأ الحضور بهذا الكلام.فمن يقصد البطريرك بسهامه،ومن هم الذين تفبرك لهم الملفات ويجري تعذيبهم في أقبية شعبة المعلومات ،وهم من دين ومذهب معين؟
تُقدّر من كلام البطريرك أنهم من الطائفة المسيحية ،لكن غبطته يرفض التوضيح:"إذا راجعوني في الأمر سأقول لهم من هم بالاسماء"..وكفى.
ولكن يا سيدنا تقولون أن الحل باستكمال الطائف،فمن أين نبدأ ذلك،وهل نبدأ بالمادة 95 لالغاء الطائفية السياسية؟
يجيب:المطلوب تطبيق الدستور بحذافيره..
ولكننا مختلفون حتى على تفسير مواد الدستور؟
يستدرك البطريرك:عندما تغيب الدولة يتعثر كل شيء،حتى رجال الدين يتحولون عندها كغيرهم من الأحزاب والقوى والميليشيات بحيث يأكل القوي الضعيف.
ولكن ما هو الحل ياسيدنا؟
يرد:المشكلة تفاقمت في ظل الخلاف السعودي الإيراني وعكست صراعا مذهبيا بغيضا بين السنة والشيعة ،واعتقد أن الحل في لبنان صعب في ظل هذا الصراع.
الزميل علي يوسف يقدم مداخلة مؤداها "أن المسيحيين في لبنان كانوا قادة الفكر،وعليهم أن يعودوا كذلك ،وأن المشكلة في الأساس هي في الميثاق وتفسيراته،ولعل أخطر ما يواجهونه اليوم هو الحديث عن العدّ والعدد.
ينتهي اللقاء بعد أكثر من ساعة بالحديث عن "مشروع ليلى" .يحاول البطريرك تحييد نفسه عن هذه القضية،ويرى "أن الحل كان يجب أن يتم بغير هذه الطريقة ،أي عن طريق مرجع ترفع اليه هذه القضية ليتخذ القرار بشأنها،فمن هو هذا المرجع،وهل هو موجود؟".
نقول :إنه النيابة العامة..
لا يعلق البطريرك..
البطريرك غاضب.ربما هو على حق.أحوال البلد تستدعي الغضب..والغضب الشديد!