إقتصادالعالم العربي

الاقتصاد العراقي من الداء الى الدواء(عماد عكوش)

 

بقلم د.عماد عكوش – الحوارنيوز

يعاني الاقتصاد العراقي من اختلال هيكلي عميق يتمثل في تضخم القطاع العام واعتماده شبه الكلي على الإيرادات النفطية ، مقابل ضعف مزمن في القطاع الخاص . وقد تحوّل التوظيف الحكومي عبر العقود إلى أداة اجتماعية وسياسية لامتصاص البطالة وتهدئة التوترات ، ما أدى إلى أعباء مالية ثقيلة ، وانخفاض الكفاءة الإنتاجية ، وتآكل فرص التنمية المستدامة.

يُعد القطاع العام في العراق من الأكبر نسبةً إلى حجم الاقتصاد مقارنة بدول ذات دخل مماثل حيث يقدر عدد الموظفين الحكوميين بما بين 4.5  و 5  ملايين موظف، مدنيين ، عسكريين ، وأجهزة أمنية ، نسبتهم من إجمالي القوى العاملة تقارب ما بين 40 الى 50 %  ، وهي نسبة مرتفعة جدًا مقارنة بالمتوسط العالمي والبالغة 15 الى 20 % .

اما بالنسبة للتركيبة الوظيفية فهناك تركّز كبير في الوزارات الخدمية والأمنية ، تضخم إداري مقابل نقص في الكفاءات التقنية والإنتاجية ، ازدواج وظيفي وترهل إداري في عدد من المؤسسات ، وهذا الحجم الكبير لا يعكس توسعًا في الخدمات أو الإنتاج ، بل يعكس توظيفًا ريعيًا مرتبطًا بالإنفاق النفطي.

تشكل الرواتب والمنافع الاجتماعية العبء الأكبر على الموازنة العامة حيث  تتراوح بين 45  و 55 مليار دولار سنويًا حسب أسعار النفط،  وتقارب نسبتها ما بين 30 الى 35 %  من إجمالي الموازنة ، كما تبلغ نسبتها من الناتج المحلي الإجمالي ما  بين 20 الى 25 % ، وهي من الأعلى عالميًا. وتدخل في مكونات هذه المنافع الرواتب الاساسية ، مخصصات (خطورة، موقع، غلاء معيشة…) ، تقاعد مبكر وسخي ، ضمانات اجتماعية غير ممولة اكتواريًا .

أما الأثر الاقتصادي فيتجلى في تقليص الإنفاق الاستثماري ، تعميق العجز المالي في فترات انخفاض اسعار النفط ، زيادة الاعتماد على الاقتراض ، وإضعاف السياسة المالية كأداة تنموية .

ان الاسباب الحقيقية التي حولت القطاع العام الى قطاع يثقل كاهل الدولة هي الاقتصاد الريعي الاستهلاكي بسبب غياب التخطيط والاستقرار ، غياب القطاع الخاص المنتج ، الزبائنية السياسية والتوظيف مقابل الولاء ، ضعف الحوكمة وغياب معايير الكفاءة والمساءلة ، وتشوه سوق العمل من خلال خلق  فجوة أجور وأمان وظيفي بين العام والخاص .

لا يمكن الاستمرار بهذا الواقع ولا بد من وضع خطط وسيناريوهات للخروج من هذه الدوامة القاتلة للاقتصاد عبر إصلاح القطاع العام وتعزيز دور القطاع الخاص ، من هذه السيناريوهات :

الإصلاح التدريجي 

هو الأكثر واقعيا على المدى القصير حيث تبدأ بتجميد التوظيف الحكومي الجديد لفترة زمنية محددة ، معالجة موضوع تعويض المتقاعدين بشكل يضمن مصلحة الخزينة ، إعادة توزيع الموظفين بين المؤسسات ، إصلاح سلم الرواتب لتقليل الفوارق ، ورقمنة الإدارة العامة وانشاء الحكومة الالكترونية .

ان اعتماد هذا السيناريو سيؤدي الى خفض تدريجي للإنفاق ، استقرار اجتماعي نسبي ، وتحسن بطيء في الكفاءة. اما بخصوص المخاطرالتي يمكن ان يرتبها هذا السيناريو فهو  بطء الأثر ، واستمرار الترهل جزئيًا.

التحول الهيكلي المتوازن

هو السيناريو الأمثل اقتصاديًا حيث يتم اعتماد برنامج تقاعد طوعي مبكر ممول ، نقل جزئي للخدمات إلى القطاع الخاص (PPP) ، خصخصة مدروسة للمؤسسات الخاسرة ، تحفيز الاستثمار المحلي (قروض، ضمانات، إعفاءات) ، وربط التعليم بسوق العمل . ان النتائج المتوقعة لهذا السيناريو هو خفض ملموس في فاتورة الرواتب ، خلق فرص عمل حقيقية ، وتنشيط الاقتصاد غير النفطي . اما المخاطر فهي انه  يحتاج توافقًا سياسيًا وإدارة قوية .

الصدمة الإصلاحية السريعة

هو سيناريو مرتفع المخاطر سياسيًا حيث يتم اعتماد اجراءات منها ، تقليص فوري للتوظيف ، رفع الدعم عن الأجور العالية ، خصخصة واسعة ، وتحرير سوق العمل . اما النتائج المتوقعة فهي تبدأ بتحسن سريع في المؤشرات المالية ، جذب استثمارات . اما المخاطرالتي يمكن ان تنتج عن اعتماد هذا السيناريو فهي  اضطرابات اجتماعية ، وفقدان الثقة .

لا يمكن تقليص القطاع العام دون بديل اقتصادي حقيقي لذلك لا بد من انجاز بعض الاصلاحات الاساسية التي يمكن ان تخلق هذا البديل من جهة ، وتخفض من عبء القطاع العام من جهة اخرى ، ومن هذه الاصلاحات تحسين بيئة الأعمال لا سيما القضاء، التراخيص، والفساد ، حماية المنتج المحلي مرحليًا ، تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة ، إصلاح النظام الضريبي ليكون عادلًا ومحفزًا ، شراكة حقيقية بين الدولة والقطاع الخاص ، وضمان اجتماعي للعاملين في القطاع الخاص لتقليص فجوة الأمان الوظيفي.

إن تضخم القطاع العام في العراق ليس مجرد مشكلة مالية، بل هو عرض لخلل بنيوي أعمق في طبيعة الاقتصاد والدولة. الإصلاح ممكن ، لكنه يتطلب رؤية طويلة الأمد ، وتدرج في الخطوات ، وربطً حقيقي بين إصلاح القطاع العام من جهة وبناء قطاع خاص منتج وقادر على استيعاب اليد العاملة من جهة اخرى . من دون ذلك ، سيبقى النفط هو المموّل الوحيد ، والقطاع العام هو الملاذ الأخير ، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بشكل دائم .

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى