رأي

الاقتصاد الأخلاقي للرشوة الصغرى: حين يكون الفساد ضرورة (سعيد عيسى)

 

بقلم د. سعيد عيسى – الحوارنيوز

 تُصوَّر الرشوة دومًا في الخطابات الرسمية على أنها “سلوك لا أخلاقي” يستحقّ الإدانة والمحاسبة. لكن، حين ننظر إليها من منظور أنثروبولوجي، تتغير المعادلات جذريا ونصبح أمام أسئلة مثل : هل يمكن أن تكون الرشوة “عادلة”؟ وهل يصبح الفساد، في سياقات معينة، “ضرورة يومية للبقاء” بدلًا من كونه مجرد انحراف فردي؟

في العديد من المجتمعات الهشّة – حيث تكون الدولة غائبة، خاملة، المؤسسات شبه معطّلة، والخدمات مربكة – تتحول الرشوة الصغيرة إلى “أداة للنجاة” وآلية لتسريع المعاملات. تمكّن هذه الرشاوى الأفراد من الحصول على حقوقهم الأساسية، مثل ملفٍ صحيّ، أو تسجيل مولود، أو استخراج شهادة، أو حتى دخول مستشفى.

تعريفات متعدّدة: من الفساد الإداري إلى الأخلاق اليومية

في المنظور القانوني، تُعرَّف الرشوة بوصفها دفعة غير مشروعة للحصول على امتياز غير مستحق”. أما في المنظور الأخلاقيّ الرسميّ، فهي انتهاكٌ صارخٌ لمبادئ العدالة والمساواة. لكنّ الأنثروبولوجيا تُذكِّرنا بنسبية هذه المفاهيم: ما يُصنَّف كـ”رشوة” في دولةٍ ما، قد يُعتبر في أخرى هديّة أو مكافأة“. وفي هذا السياق، يشير جان بيير أوليفييه دي ساردان إلى أن ما يُوصم بالفساد في المجتمعات الهشّة، قد يكون جزءًا من اقتصاد أخلاقي بديل قائم على الثقة والمعرفة، أو القرابة بحدودها الضيّقة، أو المجتمعية، لا على النصوص القانونية المجرّدة.

الرشوة الصغرى كممارسة يومية غير مرئية

في بلدان مثل مصر، المغرب، العراق، ولبنان، لا تمرّ أي معاملة إدارية – من تجديد الهوية إلى إخراج القيد وغيره – إلا بقدرٍ من “الإكرامية” أو “التشجيع”. قد تكون المبالغ زهيدة، لكنها منتظمة، متوقّعة، و”ضرورية” لتسيير الأمور. واللافت أن هذه الرشوة الصغرى لا تُرى كفساد من قبل غالبية السكان، بل كوسيلة لتجاوز البيروقراطية، أو أحيانًا كتعويض غير رسمي عن راتب الموظف المنخفض. وتُمارَس أحيانًا بدافع الإحراج أو الامتنان أو الخوف، لا بدافع الطمع.

الفساد اليومي: آلة طبقية لإنتاج اللامساواة
لا يُمارَس “الفساد الصغير” على قدم المساواة: فالفقراء يُواجهون افتراضًا مسبقًا بعجزهم عن الدفع، ممّا يدفعهم لتقديم نسبة فادحة من مداخيلهم مقابل خدمات أساسية كاستخراج وثيقة أو دخول مستشفى، بينما تُعفى النخبة من هذه المعادلة. فأصحاب النفوذ (ذوو المناصب أو النفوذ أو على اتّصال بهم) لا يُشتبه في قدرتهم، بل يحصلون على الخدمات مجانًا عبر المحسوبية أو التهديد.

كما تكشف دراسات سارة تاونسند أن المواطن العادي يُجبَر على دخول شبكة الرشوة وهو في حالة الصمت خوفًا من العقاب، الاستسلام اقتناعُا باستحالة المقاومة، والسّخرية تنفيسًا عن مرارة العجز. وهذه الآلية لا تكرّس الفساد فحسب، بل تُنتج ثقافةً سياسيةً قائمةً على “تطبيع القهر”، حيث يتحوّل انتزاع الحقّ إلى حلمٍ محض.

الخط الفاصل بين العدالة والنجاة: الرشوة كتمرد على القمع البيروقراطي

هل تُعدُّ الرشوة الصغرى جريمةً أخلاقيةً؟ أم احتجاجًا عمليًّا على أنظمةٍ حوّلت الحقوقَ الأساسيةَ إلى امتيازاتٍ مُسعَّرة؟
في المجتمعات التي تعاقب الفقرَ كذنبٍ، وتحوّل الإجراءاتِ البيروقراطيةَ إلى متاهاتٍ لإذلال الضعفاء، تصبح الرشوة أحيانًا سلاحَ المقهورين: دفع مبلغٍ زهيدٍ لاستعجال وثيقةٍ أو دخول مستشفى، ليس انحرافا، بل مقايضةٌ مريرةٌ بين الكرامة والبقاء.

هنا يلتقط عالم الأنثروبولوجيا ديفيد غريبر (David Graeber) جوهرَ المفارقة حيث يقول:

البيروقراطية الحديثة صمّمت لتعاقب الفقراء بـ عملات غير نقدية: الضياع في الأوراق، انتظارٌ لا نهائيّ، إهانةٌ يوميةٌ تُذكِّرهم بأنهم غير مرغوب فيهم. في هذا السياق، الرشوة ليست فسادا، بل اختصارٌ ثوريٌ للزمن – انتزاعٌ لـحقٍّ إنسانيٍّ من فم آلةٍ لا ترحم.”

هذه “اللغة المختصرة” التي يصفها غريبر، تتحوّل إلى جسرٍ فوق هوّة النظام:

  • للعامل الذي يدفع رشوةً لتسجيل مولوده خشيةَ تجميد راتبه.
  • للأمّ التي ترشو موظفًا لإنقاذ ابنها في طابور المستشفى قبل فوات الأوان.

في هذه اللحظات، تنتفض الرشوة لتكون عدالةً بدائيةً تصلّح – ولو مؤقتًا – انكسارَ العقد الاجتماعي.

من يربح من الفساد الصغير؟

يمكن القول أنّ الرابح الحقيقي ليس الموظّف الصغير الذي يحصل على “الرشوة”، بل النّظام كلّه الذي يتنصّل من مسؤوليته، ويُلقي العبء على المواطن والموظّف معا. تصبح الرشوة الصغيرة تأمينًا غير رسميٍّ للخدمة العامة، دون أن تتكلّف الدولة شيئًا.

وهكذا، يتم تفريغ فكرة المواطَنَة من معناها، لأن الحصول على الخدمة لا يعود قائمًا على الحقّ، بل على القدرة على التفاوض، أو الدّفع، أو التحمّل.

لا عدالة دون مساءلة السياق

في الخاتمة، الرشوة الصغرى ليست انحرافًا فرديًا بحتًا، بل عرضٌ لمرضٍ بنيويّ. وعلاجها لا يبدأ فقط بالعقاب أو القوانين، بل بفهم السياق: غياب العدالة، انهيار البنية التحتية، تدنّي الأجور، وتواطؤ الدولة الصامت.

وهنا لا تُبرّر الرشوة، لكنها تطرح السؤال الأهم: هل يُمكن الحديث عن النّزاهة في غياب الكرامة؟ وهل يمكن للفقير أن ينتظر “دولة عادلة” في واقع بلا دولة؟

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى