الإنزياح الجغرافي والتاريخي:معجزة اليمن في غمرة المحن (فرح موسى)
بقلم أ.د فرح موسى – الحوار نيوز
يعرّف الانزياح لغةً بأنه مصدرٌ للفعل المطاوع”انزاح”، أي ذهب وتباعد.وفي الاصطلاح يعني استعمال الباحث المحترف للغةِ،مفردات وتراكيب وصورًا،استعمالًا يخرجُ بها عن ما هو معتادٌ ومألوف،بحيث يؤدي ما ينبغي له أن يتصف به من تفرّد في طريقة الاستخدام،وهذا ما أردنا تِبيانه في حق أهل اليمن في ما كان لهم من ذهاب وتباعد،فهم تباعدوا في الجغرافيا من مأرب إلى يثرب والشام والعراق بانزياح مشهود،واستوعبوا التاريخ والجغرافيا ليكونوا صنّاعًا للأمجاد،وسيوفًا للإسلام حتى قال فيهم الإمام علي ع:”يا معشر همدان أنتم درعي ورمحي،وما نصرتم إلا الله ورسوله،ولا أجبتم غيره..”.
وهكذا،فإن كل شيء يمكن أن يغيب عن السياسة وتجارب الشعوب إلا التاريخ،فهو حاضرٌ فيها،ويحكي تجاربها،وينطق بأحوال أهلها،مدحًا وذمًا،وقد كان لليمن ما يميّزه وينفرد به في تاريخه الناصع،وسياسته الحكيمة قبل الإسلام وبعده.فمن عمق التاريخ نستحضر ديمقراطية بلقيس،والقوم أولي البأس الشديد. ومن القرآن نرتّل آيات سبأٍ،ونشتم رائحة كل طيب،حيث قال تعالى:”بلدةٌ طيبةٌ وربٌ غفُوُرٌ..”. فماذا عسانا نقول عن يمن الأنصار وقد امتد بهم التاريخ من عمق الأمجاد والأبجديات،إلى ملك سليمان والعرش العظيم،ليستقر بهم في رحاب الإسلام وروح اليقين،ليناً ورأفةً وإخلاصًا وعزمًا لا يلين،كما وصفهم رسول الله ص:”بأنهم أنجع طاعة،وأطوع للحق ينقادون له..”،وقوله ص:”إن لله كنوزًا في اليمن كلما رق الإسلام أخرج له منها كنزًا…”.
إن يمن الأنصار اليوم لا يمكن فصله عن تاريخ أمجاده،وعما كان له من تمايزات في تاريخ الإسلام،فأنصار الإسلام في مدينة الرسول ص ،والذين عرفوا بالأوس والخزرج هم قبائل يمنية انزاحت بهم الجغرافيا من مأرب بعد انهيار ما عُرف بسد مأرب في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد(١٥٠ ق.م)،ليكونوا أنصارًا للرسول ص بعد مئات السنين!
وقد اتفق المؤرخون،أمثال “المقريزي”، “وياقوت الحموي،” والطبري، وغيرهم كثير من أهل التأريخ،على أن الهجرات اليمنية استمرت قبل انهيار السد وبعده إلى الشام والعراق،وكانت الهجرة الكبرى إلى يثرب(المدينة)،فهذا الانزياح في التاريخ والجغرافيا للشعب اليمني يمكن التدبّر فيه على نحو مختلف عما هو مألوف من هجرات،فأن يحدث زلزال في مأرب يبدّل أحوال الناس من الخصب إلى القحط،ويجعل أهلها على غير استقرار،فيتركون بلادهم وأرضهم إلى ما كان يُعرف قبل الإسلام بيثرب،أمرٌ يحتاج إلى فهم تاريخي من خارج سياق الأحداث الطبيعية ،وذلك لما ينطوي عليه هذا التحول في الجغرافيا والتاريخ من معطيات غيبية حاكمة لمسارات الأحداث، ومؤكدة على جوهرية الأسباب المضبوطة وفقًا لحاكمية السنن الإلهية،التي لا تخالف مرادات الله تعالى في ما يراد له أن يكون حتمًا مقضيًا،وأمرًا مفعولًا.
وكيف لا يكون الأمر كذلك،وقد أجمع المؤرخون على أن المدينة المنورة قبل البعثة النبوية لم يكن فيها إلا القليل من العرب،فأكثر أهلها كانوا من بني إسرائيل،كما يقول المستشرق ” ولنفسون”، وفيليب حتي،والسيوطي،والطبري،والشهرستاني،وغيرهم كثير.وهذا ما يؤكد لنا أن مجيء الأوس والخزرج إلى المدينة لم يكن مجرد هجرة من خارج الغيب التاريخي،وإنما هي جاءت بلحاظ الإعداد المسبق من لدن الغيب لإيجاد الرافعة لتحقق الحدث الإسلامي الكبير،وما كان للهجرة النبوية أن تتم لو لم يتحقق هذا الانزياح الجغرافي والتاريخي لأهل اليمن إلى المدينة المنورة،وهم الذين كانت لهم حظوة النصرة والسبق إلى الإسلام والجهاد في سبيل الله،كما قال تعالى:”والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان…”.
إن ما نعنيه بالانزياح التاريخي والجغرافي هو هذا،أن اليمن لم تتحكم بتاريخه الصدف،ولم تهجره اللطائف الإلهية والحكمة اليمانية،بل كان دائمًا يحكم قبضته على التاريخ،ويلوي عنق الجغرافيا لتكون طوع بنانه،ومطيّة ركبانه،وها هو اليوم عاد ليعطف آخر التاريخ على أوله،ويحكم الطوق على الجغرافيا،برًا وبحرًا،ليستحضر من الغيب كل عناوين ومفاتيح جهاده!؟
لقد عاد اليمن إلى سابق عهده،ليكون في نصرة الإسلام والمسلمين،وقد تسمّوا بالأنصار بوحيٍ من تاريخهم،الذي لم يلتبس على أهله،رغم تراخي الأزمان،وتعاقب الأحداث.وهنا نسأل،هل من المعجزة أن ينطوي اليمن على ذاته،تقسيمًا،وترويعًا،وتجويعًا،ثم يعود بكل أمجاده،ليكون في مواجهة الغرب المستعمر؟ وكيف يمكن لباحث،أو مؤرخ،أو فقيه،أن يجيب على أسئلة الحاضر،إذا لم يكن متاحًا له استحضار صيرورة هذا التحول اليمني في ما كان عليه من مجهولية في الفاعلية والحضور!،فإذا به يتحول إلى محور عالمي،وقطب لرحى الأحداث يمسك بها في كل اتجاه،مهددًا للأعداء،ومتوعدًا بالنصرة والجهاد،ومؤكدًا على الفتح المبين بكل عزم ويقين،مستحضرًا لنفسه أقدس ما اشتملت عليه جغرافية الأرض وتاريخ الإنسان من جواهر الإسلام والمسلمين،معلنًا بكل ثقة رد العدوان وتحرير فلسطين!؟
فإذا كان الانزياح الجغرافي،وهو مصطلحٌ متضمن لمعنى المعجزة،قد انطوى على حقيقة التدبير الإلهي بما ادّخره من كنوز وأسباب يمنية لنصرة الدين قديمًا وحديثًا،فإن الانزياح التاريخي يمثل هذا التحوّل الإعجازي لليمن وشعبه العظيم، إذ هو استطاع في برهة زمنية محدودة إعادة وصل التاريخ بعد انقطاعه وتصارمه،جاعلًا منه جسرًا للمجد والخلود،وحديثًا عن نصوع الإسلام،كأنه في فجره المشهود،وفتحه المعهود!
هكذا هو يمن الأنصار بعد تمادي القرون،يعود لتوظيف التاريخ والجغرافيا،وكل أمجاد التاريخ على أبواب فلسطين على أمل الجهاد المقدس والفتح المبين،كما كان لأجداده في فتوح الإسلام ونصرة الرسول.فالأنصار أولاً هم الأنصار أخيراً،ولا بد أن يأتي من يدعو للأنصار كما دعا لهم رسول الله ص:”اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.”.
والسلام عليكم ورحمة الله.
*رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات.