الإعلام وصناعة الرأي العام: بين المهنية والنميمة
كتب محمد هاني شقير:
قبل أن تنطق المحكمة الدولية الخاصة بجريمة الشهيد رفيق الحريري ورفاقه بحكمها الابتدائي، كان قد ضج الشارع اللبناني، بجميع مكوناته، وبخاصة الامنية والسياسية والاقتصادية والاعلامية، بأخبار وشائعات أقلها أن فتنةً سنيةً شيعيةً ستقع ولن يكون من السهولة بمكان لجمها ومنع حصولها. واستمرت الأمور على هذا النحو ،بل إنها تصاعدت بشكل جنوني عشية اصدار الحكم، بحيث شهد العالم الافتراضي خصوصًا، انتشارًا كثيفًا لفرضيات واحتمالات صبّ جلها في منحى واحد سيء ومبيت.
منذ صبيحة الثلاثاء في 18 آب، كان الناس يترقبون ويتابعون ويتوقعون ما سيكون عليه الحكم وتداعياته المحتملة. ولما بدأت المحكمة جلساتها، كان لافتًا أن خطة سيرها ومنطوقاتها ذاهبة باتجاه مخالف تمامًا لمعظم ما كان قد توقعه المتابعون، حيث، وباستمرارها بشكل طبيعي، بدأ اللبنانيون يستشعرون أن الأضرار باتت، الى حدٍ ما، جانبية وغير ذات تأثير قوي ومباشر، غير أن المجتمع بدأ ينقسم الى فئتين أساسيتين: ففي حين راحت فئةً منه تشكك بما يصدر من المحكمة ولا سيما أنها كانت تمني النفس ان تكون معطياتها غير تلك التي بيّنتها، فإن فئةً أخرى بدأت تتنفس الصعداء، واستشعرت أن الأمور ليست بالخطورة التي سبق وتحدث عنها كثيرون.
انطلاقًا من هذه المتغيرات فإن بعضهم بدأ ينسج شكوكًا حيال مجريات المحاكمة، وبعد أن كان من أشد المتحمسين لها فإنه صبّ جام غضبه عليها، فيما تحسّر من كان غير راض عنها أصلاً، على التعب الذي بُذل والمال الذي صُرِف عليها، لتخرج في نهاية المطاف بمجموعة تحليلات لا ترقى الى مستوى الحدث-الجريمة.
ثم صدر الحكم، ونزل على اللبنانيين بردا وسلاما، ولم تشهد الشوارع أي تحركات مريبة أو خطرة، وكان مميزًا جدًا أن الشارع لم يحقق أمنيات عدد من الاعلاميين الذين انتشروا في أحياء بيروت ليستصرحوا الناس الذين كانوا، بحق، حريصين وواعين لما يحاك، وبدل أن ينجروا الى مواقف نارية، كما يشتهي بعضهم، فإنهم امتلأوا حكمة ورشدًا فعبروا بهدوء ورويةً عن مشاعرهم ومواقفهم، وقطعوا، بذلك، دابر الفتنة التي جرى السعي إليها.
إن مشكلة بعض السياسيين والاعلاميين هي أنهم ينصّبون أنفسهم محققين وخبراء وقضاة، ويزعمون أنهم يفقهون في كل شاردةٍ وواردة، وتاليًا يسهمون في صناعة رأيٍ عام ملتبس يلبي الأهداف المبيتة لدى كثيرين.
في هذا الإطار، إنّ العودة الى سنوات خلت، تقودنا الى معاينة الممارسات التي قام بها بعض الاعلاميين الذين سمّوا أنفسهم استقصائيين على وجه الخصوص، حين أداروا حلقات عديدة وطويلة، واستثمروا الفضائيات ووسائل الاعلام المسموعة والمكتوبة، باذلين قصارى جهدهم في فبركة ما يشتهون من روايات تتعلق بجريمة الشهيد رفيق الحريري. لقد نبشوا شهودًا من كل حدب وصوب، وتفننوا في استنتاجات واستنباطات تكاد تكون نهائية حول الجريمة، بحيث لم يكن ينقصهم إلا النطق بالحكم وجلب المتهمين – المجرمين الى قوس المحكمة!
يقول الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتابه "الرأي العام ودوره في المجتمع": لعب الاعلام المضاد والمضلل دورًا مهمًّا في سبيل إخفاء حقيقة الرأي العام، وذلك لسلب الحرية الانسانية وإخفاء الحقائق والمبادىء البنّاءة.
بهذا المعنى، مارست تلك الفئة من الاعلاميين دورًا مسيئًا لقضية الشهيد الحريري، ولفقت تهمًا من هنا وهناك لأشخاص لبنانيين وغير لبنانيين، حتى كادوا أن يتحولوا في مجتمعاتهم الصغيرة الى مجرمين قتلة، بقطع النظر عن حكم المحكمة النهائي عليهم.
إن هذا الاعلام استمر سابقًا، ويستمر راهنًا، مستخدمًا الطرائق نفسها، وهو، عينه، اليوم، يحاول أن يقدم نفسه كمحقق وكقاض في قضية الانفجار – الزلزال الذي هزّ بيروت، ويضع مقدمات يحددها ليصل الى خواتيم تلبي رغباته التي يتمناها ويعمل على الوصول إليها وذلك لغايةٍ في نفسه.
إننا نشاهد كل يوم، على معظم شاشات التلفزة، محللين يفندون ما يعتقدون أنه الحقيقة، وهم في حقيقة الأمر، ليسوا سوى أشخاص يزعمون أنهم يعرفون، ويتدخلون بفظاظة في أمور لا يفقهون منها شيئـًا، وهم، إن استمروا بالطريقة نفسها، فلسوف يكررون تجارب من سبقهم في قضية الشهيد رفيق الحريري، وإنّما هم يسهمون في صناعة رأيٍ عام كما يشتهون، بصرف النظر عن الحقيقة ومجرياتها ومساراتها المفترضة التي ننتظرها سريعةً حاسمةً غير متسرّعة.
بالنظر إلى قضية بحجم زلزال انفجار المرفأ، ألا تستأهل منّا شيئًا من التروّي والهدوء، والتقليل من التخمينات والتوقعات والقراءات المفتوحة على غاربها، وترك أمرها لعشرات المحققين المتخصّصين الذين قَدِمُوا من جميع دول العالم المتقدم؟
أليس من الأجدى بذل الجهد في مكان آخر يخدم اللبنانيين، ولا سيما أن حالة التضامن والتعاضد تتمظهر بأرقى صورها في لملمة آلام الناس وأضرارهم؟
إن ردات فعل اللبنانيين تجاه حكم المحكمة كانت ولا زالت تؤشر الى وعيهم وإدراكهم أن لا أسباب تدعوهم الى التقاتل وتقاذف التهم، وأن كل الوقت والجهد والمال الذي بذل طيلة هذه السنوات لم يكن، بمعظمه، في محله.