رأي

الإصبع المرفوع بوجه وطن !(أكرم بزي)

 

كتب أكرم بزي – الحوارنيوز

ليست كل الإهانات بحاجة إلى كلمات نابية أو شتائم مباشرة كي تفهم. أحيانا تكفي إيماءة واحدة، وأحيانا تكفي سياسات كاملة تمارس ببرود، لتقول المعنى ذاته، الازدراء. من هذه الزاوية، لا يمكن النظر إلى ما فعله فؤاد مخزومي في حق بولا يعقوبيان كحادثة عابرة أو انفعال لحظي، بل كفعل رمزي كاشف لعقلية سياسية أعمق. العقلية نفسها التي يرى كثيرون أنها تحكم مقاربة نواف سلام تجاه لبنان.

 

حين يرفع سياسي إصبعه الأوسط في وجه نائبة، فالأمر يتجاوز سوء الذوق أو الغضب. إنها لحظة انكشاف. انكشاف تصور كامل للعلاقة مع الآخر، علاقة تقوم على الاستعلاء لا الاحترام، وعلى القوة لا الحوار. تلك الحركة لا تهين شخصا بعينه فقط، بل تهين فكرة السياسة نفسها، بوصفها مساحة نقاش ومسؤولية عامة.

 

لكن السياسة لا تمارس دائما بالإيماءات الفجة. أحيانا تمارس الإهانة بلغة هادئة، وبمصطلحات أنيقة، وبخطاب عقلاني ظاهريا. هنا تحديدا تقوم المقاربة. ما فعله مخزومي ليعقوبيان كإهانة مباشرة وفاضحة، يرى كثيرون أن معناه يتكرر اليوم على مستوى أوسع، حين يشعر اللبناني أن بلده يدار بعقلية فوقية، وكأنه عبء أو تجربة نظرية، لا كيان حي له ناس وكرامة.

 

الفارق بين الحالتين ليس في الجوهر، بل في الشكل. الأول قال الإهانة بوضوح فج، بلا أقنعة. الثاني، بحسب هذا المنطق، يقولها بلغة الدولة، وباسم الإصلاح، وبحجج الضرورة. لكن النتيجة واحدة، شعور متنام بأن المواطن خارج القرار، وأن البلد يخاطب من عل، لا كشريك بل كموضوع إدارة.

 

الإهانة في السياسة لا تكون فقط حركة يد. قد تكون قانونا يفرض بلا نقاش، أو سياسة تطبق بلا حساسية اجتماعية، أو خطابا يتعامل مع الناس كقاصرين عن الفهم. وحين تتكرر هذه الإهانات وتقدم على أنها ما تقتضيه المرحلة، تتحول من سلوك إلى نهج، ومن حادثة إلى ثقافة حكم.

 

في حادثة مخزومي، صدم الرأي العام لأن القناع سقط فجأة. لأن ما يقال عادة في الغرف المغلقة قيل بإصبع مرفوع أمام الكاميرات. أما في الحالة الثانية، فإن الصدمة أقل صخبا لكنها أعمق أثرا، لأنها تطاول وطنا كاملا، وتمضي ببطء، وتسوق على أنها طريق الخلاص، فيما يشعر الناس أنها طريق مزيد من التهميش.

 

هذه المقارنة لا تقول إن الأشخاص متطابقون، ولا إن السياقات متماثلة حرفيا. لكنها تقول إن العقلية واحدة. عقلية ترى السياسة موقع تفوق لا خدمة، وترى الدولة مشروع إدارة لا كرامة. عقلية لا ترى في الناس سوى أرقام، ولا في المجتمع سوى عائق يجب ضبطه.

 

في بلد كلبنان، حيث الكرامة مثخنة بالجراح أصلا، تصبح هذه العقلية مدمرة. لأن اللبناني لم يعد يحتمل المزيد من الإشارات، المباشرة أو المقنعة، التي تقول له إن صوته هامشي، وإن معاناته تفصيل، وإن بلده يدار من دون أن يؤخذ رأيه بعين الاعتبار.

 

من هنا، لا تبدو هذه المقاربة استفزازية بقدر ما هي كاشفة. إنها مقارنة بين إهانة فجة وإهانة مدارة بعناية. بين إصبع رفع في وجه امرأة، وإصبع رمزي يشعر كثيرون أنه مرفوع يوميا في وجه وطن كامل، ولكن باسم الدولة، وباسم العقل، وباسم المصلحة العامة.

 

وفي ختام هذه القراءة، لا بد من استحضار نماذج مضادة، لا من باب النوستالجيا، بل من باب المعيار الأخلاقي. حين نذكر سليم الحص، فإننا نستحضر رجل دولة عاش بسيطا ومات نظيف الكف، لم يرفع إصبعا في وجه أحد، ولم يتعامل مع الدولة كمنصة استعلاء. شواهده كانت في سلوكه، احترام الدستور، رفض الامتيازات، والإيمان بأن الحكم مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون سلطة.

 

وكذلك رشيد كرامي، الذي مثل مدرسة في الحكمة والاحتواء، وأدار التوازنات من دون إذلال، وخاطب اللبنانيين بلغة الشراكة لا الوصاية. فهم الاثنان أن كرامة الدولة تبدأ من كرامة الناس، وأن أي إهانة، مهما كان شكلها، تهدم الثقة وتفكك المعنى.

 

رحم الله الرئيس سليم الحص، ضمير لبنان،

ورحم الله الرئيس رشيد كرامي، الحكيم.

ففي زمن كثرت فيه الأصابع المرفوعة، يبقى غياب أمثالهم الدليل الأوضح على حجم الانحدار الذي أصاب معنى الحكم، وعلى الحاجة الملحة إلى سياسة لا تهين، لا الفرد ولا الوطن.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى