رأي

الأفق البعيد..وأحلام الإنتظار!(أسامة مشيمش)

 

بقلم الدكتور أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز

 

لطالما سمعنا في الأغاني والأناشيد والقصائد عن “الأفق البعيد”.

ذلك الأفق الذي يُرسم أمامنا كحلمٍ يلوح في نهاية الطريق، كأنّ وراءه وعدًا بالخلاص، أو مفاجأة تنتظر من يجرؤ على السير نحوه.

الكلّ هناك، في الخيال، يسافر إلى الأفق البعيد، يرحل إليه، ينظر نحوه بعين الأمل، يراه منارة النجاة ونهاية العذاب.

 

أما أنا، فقد قررت أن أجرّب نظرتي الخاصة، أن أوجّه بصري إلى ذلك الأفق الذي يتغنّى به الجميع.

نظرتُ طويلاً…

ثم نظرتُ أكثر…

لكنني لم أرَ شيئًا.

لا بحر ولا قممًا ولا ضوءًا يشقّ الظلمة.

رأيت فقط امتدادًا فارغًا من الرماد، وسماءً تحاول أن تقنع نفسها بأنّ الفجر قريب.

 

تأملتُ وقلتُ: لعلّ المرة القادمة تختلف، لعلّ العين لم تُدرك بعد ما يُخفيه الغيب.

كرّرت النظرة، مرّة بعد أخرى، ومع كل تأمّل، كانت النتيجة هي ذاتها: الفراغ ذاته، والضباب ذاته، والوهم ذاته.

 

فيا أيّها الذاهبون إلى الأفق البعيد…

أخبرونا ماذا هناك؟

هل وجدتم وعدًا يتحقّق؟

هل لمس أحدكم ضوءًا لا ينطفئ؟

أم أنكم عدتم بخُفيّ الأمل وكيس من الكلام؟

 

لقد سئمنا من “البعيد”.

سئمنا من المستقبل المؤجَّل، ومن الإصلاح الذي يُقال إنه قادم “عمّا قريب”، ومن الوعود التي تتكاثر كالأوراق في الريح ثم لا نرى منها إلا الغبار.

في لبنان، الأفق البعيد لم يعد مكانًا ننتظره، بل صار أسطورة جماعية نحتمي بها من مواجهة الواقع.

كل سياسي يَعِد بالأفق البعيد، وكل مواطن ينتظر الأفق البعيد، وكل شاب يهاجر بحثًا عن الأفق البعيد.

لكنّ أحدًا لم يسأل: ماذا لو أن الأفق لا ينتظرنا أصلًا؟

ماذا لو أنّنا نحن الذين يجب أن نخلق الأفق هنا، تحت أقدامنا، في هذا التراب الموجوع؟

 

في بلادي، صار البعيد هو الغطاء الأنيق للهروب من الحاضر.

حين يسألك أحدهم عن الإصلاح، يقول لك: “بعد حين”.

وحين تسأل عن العدالة، يجيبونك: “غدًا، عندما ينجلي الغبار”.

وحين تبحث عن الكهرباء، الماء، الكرامة، التعليم، يقولون لك: “كلها في الأفق البعيد”.

حتى صار الأفق نفسه مَعبَدًا من الوهم، نصلي له كل صباح ونلعنه كل مساء.

 

في هذا البلد الصغير، صرنا أسرى الانتظار.

انتظار الدولة التي لا تأتي، وانتظار الفجر الذي لا يطلع، وانتظار المنقذ الذي ضاع عنوانه.

وما بين الانتظار والانتظار، تضيع أعمار الناس كما تضيع الأوراق في مهبّ الريح.

يهاجر الشباب لأنهم لم يروا في الأفق سوى العتمة، ويصمت الكهول لأنّهم تعبوا من الكلام، وتضحك السلطة لأنها تعرف أن الانتظار أطول من الأعمار.

 

لقد حان الوقت لنكسر دائرة الأفق البعيد.

أن نعيد النظر إلى الواقع لا من خلف ستار الأمل الكاذب، بل من داخل الألم الحقيقي.

أن نكفّ عن ترحيل المستقبل، وأن نصنعه الآن، ولو بخطوة صغيرة في الطريق الصحيح.

أن يكون الأفق، لا مكانًا نهرب إليه، بل فكرةً نُنزِلها إلى الأرض، نزرعها في التعليم، في الأخلاق، في العمل الشريف، في الإصلاح الحقيقي لا المسرحي.

 

لن يأتينا أحد من هناك.

ولن ينقذنا أفقٌ بعيدٌ لا يرى فينا سوى المتعبين.

الإنقاذ يبدأ من هنا، من وعينا، من وحدتنا، من إصرارنا على أن نحيا لا أن ننتظر.

 

فيا أيّها القادِم إلى الأفق البعيد…

إن رأيت شيئًا، أخبرنا.

وإن لم ترَ شيئًا، فعُد إلى أرضك وازرع فيها الأمل الحقيقي.

فلقد مللنا الأمل البعيد، واشتقنا إلى عملٍ قريب، إلى شمسٍ تُشرق لا في القصائد، بل في الواقع.

 

لبنان لا يحتاج أفقًا جديدًا، بل ضميرًا جديدًا يرى ما لا تراه الشعارات.

وحين ينهض الضمير، يصبح كل أفق قريبًا، وكل مستقبل ممكنًا.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى