د. عدنان عويّد- الحوارنيوز – خاص
الأشاعرة تيار فكريّ أصوليّ سلفيّ وثوقيّ، ابتدأ مع منظره “أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري”، وهو من أحفاد الصحابيّ أبو موسى الأشعري، ولذلك اشتهر بالأشعري منتسبا لجده الأعلى. ولد في البصرة سنة 260 هـ، وتوفيّ في بغداد سنة 324 هـ، تخرج معتزليّاً على يد أستاذه “أبو علي الجبائي”. وبعد سنتين من وفاة استاذه سنة 305 هـ، أعرض عن الاعتزال وأعلن براءته منه في جامع البصرة. له الكثير من المؤلفات التي ذكرها المؤرخون، ولم يصل منها إلا: الإبانة عن أصول الديانة، ومقالات الإسلاميين، واللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، ورسالة في استحسان الخوض في علم الكلام. (1).
?
هذا ويعتبر الأشاعرة اليوم من أهم التيارات الفكريّة إلى جانب الوهابيّة التي تشتغل على العقيدة في تاريخنا الحديث والمعاصر، وهو التيار الذي اعتبر عند وجوده في العصور الوسطى تياراً وسطياً، ولم يزل يعتبر وسطياً عند بعض الأنظمة العربيّة المعاصرة ومؤسساتها الدينيّة الرسميّة، خاصة وأن هذا التيار قد عقد تحالفاً مع المتصوفة الطرقيين – وليس العرفانيين – الذين لا يتدخلون في السياسة, ولا يهمهم ما تجري عليه.
إن من أهم ما نظر له هذا التيار نظريّة (الكسب)، التي حاول فيها “أبو الحسن الاشعري” أن يخرج عن الجبر عندما قال بأن كل شيء مخلوق لله، ولكن الإنسان مسؤول عن ما كسبت يداه، اعتماداً على قوله تعالى (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَ). النجم – 39. أو غيرها من الآيات التي تحمل هذه الدلالة التي فسرها ابن كثير بقوله: (إن النفس لا تؤخذ بمأثم غيرها، ووزرها لا يحمله عنها أحد، وأنه لا يحصل للإنسان من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه بسعيه. (2). بيد أن هذا الموقف الأشعريّ من مسألة الكسب، نجد عند “ابن تيميّة” موقفاً نقديّاً له لا يتفق ومضمون تفسير ابن كثير الذي جئنا عليه أعلاه حيث يقول: إن مسألة الكسب عند الأشاعرة لا حقيقة لها، إذ ما دام العبد ليس بفاعل، ولا له قدرة مؤثرة في الفعل,، فالزعم بأنه كاسب، وتسمية فعله كسباً لا حقيقة له؛ لأن القائل بذلك لا يستطيع أن يوجد فرقاً بين الفعل الذي نفاه عن العبد، والكسب الذي أثبته له، وأن قولهم هذا قريب من الجبر الذي صرح به الجهم.). (3). ولابن تيمية مقولة أخرى عن نظريّة الكسب في موقع آخر يقول فيها: (إن أبا حسن الأشعري حاول أن ينفي الجبر فوقع فيه.).
أما إذا نظرنا إلى موقف الأشاعرة من العقل، فالعقل عند الأشاعرة يعني العلم، وهو نقيض الجهل. وقد اتفق أئمّة الأشاعرة على القول بحدود العقل ونسبيته، وتتمثل هذه المحدوديّة في نسبية القيم، ونفي العلّية، وإنكار وجود الكليات والقول بالجزئيات، وكل نص بدا في ظاهره أنه يعارض العقل وجب تأويله حتى لا يعارضه، لأن القاعدة الاشعريّة تنص على أنه لا يمكن للنقل أن يعارض العقل البتة، لان ذلك سيؤدي إلى إبطال العقل والنقل معا وهي أسس يحتج بها الأشاعرة لتجريد العقل من كل إمكانية للحكم اليقينيّ المطلق، أي جعله قاصرا على امتلاك الحقيقة بنفسه دون ورود النقل. لذلك يأتي العقل عند الأشاعرة لتثبيت النص وليس للحكم عليه. وهذا ما جعل القاضي عبد الجبار يرد عليهم بقوله :« وما يقولون من أنّ النظر لا يوجب الثقة، والوحي يقتضيها، فيجب التعلق به، غلط. لأنّ النظر لو لم يولد إلى العلم، لما عرفنا صحة الكتاب أصلاً» . (4)
على العموم، يعتبر كتاب أبي حسن الأشعري (الإبانة عن أصول الديانة). من الكتب المهمة في التراث العربيّ الإسلاميّ السنيّ، الذي ناصب أهل العقل والرأي العداء، وخاصة المعتزلة سابقاً وكل القوى التقدميّة التنويريّة لاحقاً، علماً أن أبا الحسن الأشعري كان واحداً من المعتزلة لمدة عشرين عاماً كما أشرنا سابقاً، ولكنه تراجع عن قناعاته بسبب ضغط القوى السلفيّة على من كان يقول بالعقل من مشايخ ذاك العصر، في زمن خلافة المأمون والمعتصم والواثق، ولكن منذ أن أصدر الخليفة المتوكل فرمانه عام 232 للهجرة القاضي بتحريم الاشتغال في علوم الدين على العقل، وضرورة الالتزام بالنقل واقصاء العقل، وإخراج ابن حنبل من السجن بسبب موقفه من قضية خلق القرآن، وتتشكل محاكم تفتيش يقودها الحنابلة، يمتحن من خلاها فكر المشايخ الذين كانوا يقولون بالعقل، ومعرفة مدى توبتهم وتخليهم عن فكرهم والالتحاق بفكر ابن حنبل ومدرسته، بدأ أبو الحسن الأشعري يترك الاعتزال ويلتحق بتيار الحنابلة ليعلن أمام الملأ: ( إن قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، هي التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا عليه السلام، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وما كان يقول به عبد الله بن محمد بن حنبل نظر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون واما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي ابان الله به الحق ورفع به الضلالة.). (5).
إذن إن الأشاعرة حنابلة في فكرهم، يرفضون العقل ويعتمدون النقل، وَيُبَدِعُونَ كل جديد لم يأت به القرآن والحديث والصحابة والتابعون. وعلى هذا الأساس نقول: إذا كان ابن حنبل قد أكد وثبت ما أصل له الشافعي في الفقه السنيّ السلفيّ الوثوقيّ، فإن أبو حسن الأشعري جاء فيما بعد كي يؤصل للسلفيّة السنيّة ذاتها في علم الكلام.
ولكن يظل السؤال المشروع هنا وهو، لماذا حارب الأشاعرة المعتزلة أو التيار العقليّ في عصرهم والعصور التي تلت ؟
من خلال ما ورد في كتاب الابانة بهذا الشأن، يتبين لنا ضحالة تفكير الأشاعرة، وجنوحهم للتخيل والوهم، وهم الذين اشتغلوا على قضايا الفكر والعقيدة، حيث نجد أن المواضيع التي انتقدوا فيها المعتزلة آنذاك، كانت على درجة متدنّية من السطحيّة واللاعقلانيّة، وهي قضايا افتراضيّة لا يمكن التحقق من صحتها بشكل عيانيّ أو ملموس. ومن أهم القضايا التي ناصبوا بسببها العداء للمعتزلة على سبيل المثال لا الحصر هي:
1- اعتبارهم المعتزلة أهل قدر. أي أهل رأي وعقل وإرادة حرة.
2- تأويلهم للقرآن على أهوائهم.
3- أنكروا شفاعة الرسول للمذنبين.
4- تكلموا بعذاب القبر وانكروه.
5- قالوا بخلق القرآن، وقالوا هذه أقوال بشر.
6- قالوا إن البشر يخلقون الشر، والله يخلق الخير.
7- إن الله يشاء ما يكون، ويكون مالا يشاء. بينما اجمع المسلمون، بان ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن (وما تشاؤون إلا ما أشاء الله). (ولو شاء الله ما اقتتلوا).
9- الحكم على العصاة بالنار خالدين. (ويغفر الله ما دون ذلك).
10- أنكروا أن لله يد، أو عينان. أو علم، أو قوة.
إن نظرة سريعة على مواقفهم العدائيّة هذه من أهل القدر المعتزلة، نجدهم قد اعتمدوا على نصوص قرآنيّة محددة من أجل تحقيق هذه الإدانة، في الوقت الذي نجد أن هناك نصوصاً قرآنيّة تؤكد صحة ما جاء عليه المعتزلة، وهذا يتعلق في الحقيقة بموقفهم من الأيات المتشابهات، فالأشاعرة اعتمدوا على الآيات التي تريدها السلطة الحاكمة لمحاربة العقل، ولم يأخذوا آيات قرآنية أخرى تدل على دور العقل واستقلاليته في كسب المعرفة والحكم على الأشياء، أو التأكيد على حرية الإرادة في الاختيار. مثل قوله تعالي: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ). (سورة البلد الاية -10). أو قوله تعالى: وقوله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ).(فصلت – الاية 46). وغير ذلك من الآيات المحكمات والمتشابهات التي تدل على دور الإنسان كخليفة لله على هذه الأرض.
ملاك القول:
إن خطورة أفكار التيار الأشعريّ برأيي، تأتي من استمراريّة حضوره الآن في المؤسسات الدينة الرسميّة للكثير من الحكومات العربيّة، وهو فكر كما تبين معنا بعيد كل البعد عن العقلانيّة والتنوير، وهذا ما يخدم السلطات الحاكمة المستبدة التي تتخذ منه وسيلة من خلال مشايخها لتجهيل شعوبها وتوجيه عقولها باتجاه الغيب والأسطورة والخرافة والكرامة والخنوع والاستسلام لقدرهم، والأهم محاربة الحداثة ممثلة بالعلمانيّة وتكفير كل من يقول بها، ومحاربة الديمقراطيّة ودولة المؤسسات والمواطنة والرأي المختلف.. الخ.
إن التيار الأشعريّ ومن يوظفه سياسيّاً اليوم من القوى الحاكمة، هو يهدف إلى إبعاد المواطنين عن معرفة واقهم الحقيقي الذي ينشطون فيه، وما يدور فيه سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّا وثقافيّا خارج نطاق مصالحهم، وبالتالي إبعادهم عن كل ما يجعلهم يشعرون بقيمتهم الإنسانيّة، ودورهم في بناء حياتهم وفق مصالحهم هم وليس مصالح السلطات الحاكمة.
كاتب وباحث من سوريّة
الهوامش:
1- موقه ويكي شيعة.
2- تفسير ابن كثير.
3- موقع اللألوكة: نظرية الكسب عند الأشاعرة ونقضها.
4- نص محاضرة للأستاذ الباحث نور الدين جاري – بعنوان بعض الفرق الكلامية – الشاعرة – راج الموقع التالي:
https://www.univ-constantine2.dz/CoursOnLine/djari-noureddine/achari%201.htm
5- من كتاب الابانة.