بقلم الوزير القاضي محمد وسام المرتضى* – الحوارنيوز
كان ينبغي لعنوانِ هذا اللقاء، أن يحملَني على العودةِ المباشِرةِ إلى القانون الوضعي، بعد أن طوَّفَ المتحدثون الذين سبقوني في فضاء الدين والمعتقد والفقه والفضائل، مبينين القيمة الإيمانية للأسرة ووجوب صيانتِها في ظلِّ تعاليم الإسلام. لكنني أودُّ قبلًا أن أؤكد على أن الأمرَ هو نفسُه في سائر الديانات السماوية الأخرى، حتى لَتذهَبُ المسيحيةُ مثلًا إلى اعتبار العائلة كنيسةً صغيرة، بمعنى المحبة والتضخية والعيشِ الروحي الذي يجب أن يسود بين أفرادها.
والحقيقة أن القوانين الوضعية في جميع الدول، وبخاصة قوانين العقوبات، ليست سوى انعكاسٍ للمفاهيمِ القِيَميةِ في مجتمعاتِها. ولأن القيم العربية التي نحملُها ونعيشُ في هَديِها مستقاةٌ بمعظمِها من الدين، فقد فرضت المعادلة الآتيةُ نفسَها على المشرعين اللبنانيين والعرب: ما تحرِّمُه الأديانُ عادةً ما تجرِّمُه القوانين ما خلا استثناءاتٍ قليلةً ليس هنا مقامُ الخوضِ في تفصيلِها. فإذا عدنا إلى قانون العقوبات اللبناني وجدناه قد أفرد فصلًا كاملًا من عشرين مادةً عنوانُه: “في الجرائم التي تمسُّ العيلة” استعاد فيها كلِّها على وجه التقريب الأوامر والنواهي الدينية والأخلاقية التي فرضتها التقاليدُ والآداب على مر العصور.
كان لا بدَّ لي من هذا الباب مدخلًا إلى كلمتي في ملتقاكم العائلي، من أجل التأكيد على أن ما ترمون إليه فيه، إنما يصبُّ أيضًا في خدمةِ تحصين المصلحة القانونية اللبنانية، وحماية الانتظام العام. فإذا توغلنا أكثر في الناحية الاجتماعية من المسألة وجدنا أن الأسرةَ التي هي أقدمُ خليةٍ اجتماعية عرفتها البشريةُ، ما زالت صامدةً إلى اليوم، بل ما زالت الحاجةُ إليها ملحَّةً لبقاء المجتمعٍ سليمًا من الآفات والأمراض الهدامة. ذلك أن أيَّ أمةٍ سادت الأرضَ أو بعضَها في زمانٍ ما على مرِّ العصور، لم تسقط إلا بفعل انحلالها الاجتماعي، وتفشي الدعوات المتحلِّلةِ من الخُلُقيات التي نشأت عليها، فيصيرُ سقوطُها انهيارًا داخليًّا قبل أي عملٍ عدوانيٍّ خارجي.
ومن يتأمل ما يجري له الترويجُ في بلادِنا من مقولات مخالفةٍ لتراثنا الديني والأخلاقي والقانوني، تحت ستار التطور والحرية، يكتشف بسرعة أن المسألة تتعدى هذين الشعارين، وأنها خطة منظمة لضرب الأسس التي تقوم عليه إنسانيتُنا. فإن جميعَ أولئك الداعين إلى التطور والحرية، يتخلون عنهما ويزيحون القناعَ عن وجوههم الحقيقية إذا قلنا لهم مثلًا إن الحرية حقٌّ لأبناء فلسطين، أو إن التطور التكنولوجي السلمي حقٌّ لجميع شعوب الأرض، عند ذاك لا يبقى لهاتين القيمتين مجال في خطابِهم، ويصبحُ القمعُ والتهديدُ والعقوبات لسان حالِهم الوحيد.
من هذه المنطلقاتِ جميعِها يصبح ملتقاكم حركةَ حمايةٍ لمستقبل الأرضِ كلّها وللشعوب جمعاء. فالأسرة ليست خاصية دينيةً فقط، تنتمي إلى هذا الدين أو ذاك، بل هي العلامةُ الفارقةُ لوجود الحضارة البشرية، ذلك أنها التعبيرُ الأكملُ عن التضامن والتعارفِ والوحدة من ضمن التنوع، والتلاقي من أجل البناء. وما انحلالُ هذه القيم في أي مجتمع إلا بابٌ للسيطرة عليه وترويضه والاستيلاء على خيراته. لقد قاومنا وانتصرنا في ساحات الجهاد، وسوف نقاومُ وننتصر في ساحات حماية القيم والاسرة والمحبة العائلية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*وزير الثقافة
*كلمة ألقيت في مركز سكن للإرشاد الأسري خلال ندوة بعنوان: ملتقي سكن لمجتمع بمحورية الأسرة.