فنون

الأديان والموسيقى*

الموسيقى حاجة ضرورية للإنسان كما للطبيعة، وهي من وسائل التعبير الأكثر رقيا عن المشاعر. غير انها كما بقية الاكتشافات يمكن استخدامها بأشكال مختلفة، وذلك حسب القوى التي تستخدمها وأهدافها، كما الذرة مثلا اذ يمكن استخدامها لخدمة البشرية وتطورها او لتدمير البشر والحجر .
وعندما نشير الى ان القوى الدينية المتطرفة تستغل الموسيقى لغاياتها الشريرة وتجييش الناس، تستخدمها كسلاح من اجل نشر فكرها، فإننا نرمي الى أهمية العمل كي تبقى الموسيقى تؤدي دورها الروحي الإنساني والراقي ونزع الطابع التحريضي عنها .
بكلمات اخرى كما ان العلمانية تعني فيما تعنيه فصل الدين عن الدولة والمدرسة، فاننا نريد فصل الموسيقى، كما جميع أشكال الفنون، عن استخدامها للترغيب او الترهيب والتجييش.
سأتناول محورين هما:
اولا – تعريف سريع بالموسيقى وتأثيراتها المتنوعة
ثانيا – كيف استخدمت الديانات قديمها وحديثها الموسيقى ولماذ؟..
وسوف ابدا بسؤال وهو:
ما سر استخدام التراتيل في الكنائس، ما سر تلحين الأذان عند بلال، ولماذا يتم اختيار الأصوات الشجية للأذان او التراتيل ؟ لماذا تستخدم احيانا الأغاني الدينية في
المناسبات حتى الغير دينية (وفاة زواج او حتى في السهرات العامة)؟ هل ثمة علاقة بين الاغنية السياسية والدينية او بالأحرى هل الاغنية الدينية سياسية؟ وأسئلة اخرى كثيرة تحتاج للبحث .
اولا – ما هي الموسيقى؟
يتأثر لانسان كما الحيوان والنبات على حد سواء بالموسيقى عند سماع نغمات موسيقية
تحدث بعض التغيرات الكيميائية والتي يمتد تأثيرها الى جميع حواس الانسان بما فيها التفكير والتنفس والعاطفة. السبب ان الموسيقى تحفز المخ على إفراز مادة الاندروفين التي تقلل من الاحساس بالألم. أوصى ابن سينا مثلا الاستماع للموسيقى لانها تسكن الأوجاع (قال ان المشي الطويل، الغناء والانشغال بما يفرح الانسان هي من مسكنات الأوجاع ).
استخدمت الموسيقى والأناشيد الوطنية لبث روح الحماسة بين المقاتلين. هناك أغاني الحصادين كما البحارة وقدوم الصيف. ان اوضح مثال على دور الموسيقا في التهدئة هي قيام الام بالغناء لولدها او الدندنة كي ينام. وهناك من يقول باستخدام الموسيقى مكان المخدر في بعض افرع الطب عند اجراء عمليات جراحية مثل طب الأسنان. لكن الطب النفسي هو اكثرمن يستخدم الموسيقى في العلاج . من الجدير ذكره ان النبات يذبل في أماكن الضوضاء، كما ان الأبقار تدر حليبا لدى استماعها
للموسيقى. هناك طبيب نمساوي توصل الى ان الاستماع لمدة ثلاث ساعات يوميا الى الموسيقى الكلاسيكية يساعد على انقاص الوزن وتنشط الجسم كما تزيد من كفاءة العضلات .
ربما لهذه الاسباب مجتمعة او لغيرها انتبهت الأديان الى أهمية استخدام الموسيقا والغناء كسلاح من اجل السيطرة على العقول والانتشار. مستغلة حاجات الروح الانسانية وهذا ماسنلمسه في المحور الثاني .
ثانيا – كيف استخدمت الأديان قديمها وحديثها الموسيقى ؟
احتلت الموسيقا حيزا كبيرا في الشعائر الدينية عند الكثير من الحضارات القديمة، اذ كانت وسيلة للصلاة ومناجاة للآلهة والتواصل الروحي معها …. لكنها اضافة لذلك كله كانت وسيلة لجذب الناس عبر محاكاة أرواحها. يقال ان الحضارات الإغريقية وحضارات ما بين النهرين وحضارة الفراعنة كلها كانت لديها آلهة للفن وارباب للموسيقى .
لقد بينت الاكتشافات الاثرية ان السومريون استخدموا الموسيقا لرفع مستوى الرهبة اثناء مراسم الطقوس الدينية. كان الكهنة يحسنون القراءة والكتابة ومعرفة بالعلوم الاخرى مثل الرياضيات الفلسفة وغيرها وهذه الإمكانية لم تكن متاحة لعامة الناس في البداية …لذلك طبقوا هذه المعارف على الموسيقا المصاحبة لإنشاد التراتيل والتراتيل الدينية واضطروا لإحداث وسيلة لتدوينها برموز وإشارات (نوتات) لتكون لغة موسيقية تطورت الى نظريات في علم النغم والإيقاع والسلم الموسيقي وووو
كان للموسيقا والموسيقيين في حضارات بلاد الرافدين مكانة مرموقة، حيث استخدمت القيثارة (الهارب) والمزهر وغيره في احتفالات الهة الشمس والحرب والخصوبة من قبل جوقات مدربة تابعة لهياكل العبادة. كما كان هناك مدارس موسيقية خاصة .
ظهر الغناء والموسيقى في الحضارة الفرعونية منذ الاسرة الفرعونية الاولى عام 3400 قبل الميلاد. كان لدى فرعون مصر كما سائر ملوك سومر وبابل أعدادا كبيرة من الموسيقيين. كما ظهرت في نقوش جدران المعابد والقبور الملكية صور الراقصين والعازفين والمغنين. (مثلا صور المغني وهو يضع كفه الأيسر خلف أذنه وعلى الخد لتكبير الصوت وزيادة الإحساس بالرنين وهذه الظاهرة منتشرة اليوم بين المنشدين وقارئي القرأن). كما توجد نقوش تعود الى 2500 قبل الميلاد تضم مجموعة من العازفين على القيثار الكبيرة والنايات والمزمار
المزدوج. ظهر في الوقت ذاته منشدون يشاركون في المناسبات الدينية والدنيوية
كالزواج والوفاة. كانت الموسيقا في العصر الفرعوني بمثابة صلة وصل بين الاله او الآلهة والإنسان .
كما اهتم اليونانيون باللحن والموسيقى والوزن الإيقاعي …اذ انتشرت الأغاني والتراتيل والأناشيد في معابد الهتهم وطقوسهم الدينية تؤديها جوقات إنشاد من الكهنة، كانت تؤديها منشدات ومنشدين .
في بدايات المسيحية استعمل المسيحيون نفس الموسيقى الموجودة عند اليهود، إذ
كان المسيحيون يرتلون في طقوسهم المزامير بنفس الألحان القديمة المستعملة عند
اليهود بأسلوب يدعى “التنغيم البسيط”. كما أخذ المسيحيون بدورهم بتأليف تراتيل
جديدة سميت (المزامير الخاصة) وصلنا منها ترتيلة “يا نوراً بهياً” التي تقال في صلاة
الغروب حتى اليوم والتي تعد أقدم ترتيلة مسيحية وصلت إلينا، وكذلك المجدلة
“المجد لك يا مظهر النور”. السجل الوحيد في الانجيل للموسيقى الدينية كان خلال
العشاء الأخير للتلاميذ قبل صلب المسيح. خارج الإنجيل، هناك إشارات للموسيقى
المسيحية تعود إلى بولس الذي قام بتشجيع أهل أفسس وكولوسي لإستخدام المزامير، التراتيل والأغاني الروحية خلال إجتماعاتهم الدينية. التدوين الموسيقي كان بنفس أسلوب اليهود باستعمال الحروف الأبجدية، كذلك استخدم المسيحيون الأساليب اليونانية في التدوين التي تعتمد أيضاً على الحروف الأبجدية.
تم استخدام الأدوات الموسيقية في وقت مبكر الا أنه يبدو أنها أثار استعمالها بعض
الجدل. في أواخر القرن الرابع أو أوائل القرن الخامس كتب القديس جيروم تحفظاته
حول استعمال الآلات الموسيقية في القداس. ويعتقد ان جهاز الأورغ الموسيقي
التقليدي ظهر في الكنائس خلال الفترة البابوية للبابا فيتالين في القرن السابع.
شكلت التراتيل على مر العصور، موضوعًا لعدد من الأناشيد والقصائد الملحنة في
الكنيسة والمجتمع، وغالبًا ما يكون لهذه التراتيل طابع شعبي. غالبيّة هذه التراتيل
الشعبيّة تتمحور حول عيد الميلاد وإلى حد أقل حول عيد الفصح.
الجدير ذكره ان ثمة فروقات في الاداء الموسيقي والآلات المستخدمة بين الكنائس الشرقية
والغربية كما بين الكنائس القديمة والحديثة التي ظهرت نتيجة الإصلاحات التي جرت في الكنيسة . لن نتوسع في أشكال وأنواع الموسيقية المسيحية لانها خارج إطار حديثنا، لكن يمكن لمن يريد التوسع الاطلاع عليها وهي متوفرة في الكتب كما في الإنترنيت . في الاسلام استخدمت الموسيقى والغناء بأشكال مختلفة وفي مختلف العصور. الملفت للنظر ان مسألة الموسيقى في الاسلام كانت، ومازالت، مسألة خلافية جدا بين من يحرمها بالمطلق، من يحرمها على النساء فقط وبين من يضع لها حدودا وضوابط شرعية وفق تفسيرهم لها. يرصد بعض الباحثين حضورًا للموسيقى في موضوعات دينيَّة عديدة إذ تظهر الأنغام الموسيقيَّة، واضحة جلية في العديد من الطقوس التعبديَّة، مثل الأذان، وترتيل القرآن، والتمجيد واستقبال شهر رمضان وتوديعه، كما في استقبال الحجاج والموالد .
لكن رغم كل التفسيرات والاختلافات بين الفقهاء حول الموسيقى. نجد انها منذ ظهور الاسلام (طلع البدر علينا، المؤذن بلال) وحتى الان تستخدم لغايات واشكال مختلفة . غالبا مانلمس في العديد من المجتمعات المتدينة كيف يتم في المناسبات العامة: ولادة، زواج، وفاة، استخدام اغان شعبية رائجة بعد تحوير كلماتها وتضمينها تعابير دينية من اجل جذب الناس. كما لا يجوز ان ننسى ايضا الغناء في حلقات الذكر والصوفية
وما شابهها. لكن ليت الامر توقف عند استخدام الموسيقى في المناسبات الدينية فقط لقد امتد الامر في السنوات الاخيرة الى استخدام اغان وموسيقى تحريضية من قبل الاخوان المسلمون، داعش وأمثالهما. حتى وهي ينحرون أطفالا ونساء ورجالا وهو ما نلمسه بوضوح في مقاطع الفيديو التي يتم الترويج لها لترويع الناس وتخويفهم او لكسبهم ……
هكذا بدلا ان تستخدم الموسيقى كغذاء للأرواح وبث الفرح والجمال بل وحتى الشفاء من بعض الأمراض كما ذكرنا سابقا …غدت، على ايدي المتطرفين من جميع الديانات والطوائف، سلاحا فتاكا لايقل خطراعن استخدام الأسلحة الفتاكة المعروفة  كما تستخدم تلك الجماعات.
الموسيقى والغناء كأداة تحريضية ضد الأديان، الطوائف والاثنيات الاخرى .
لابد من التأكيد ان استخدام الموسيقا والغناء بشكل تحريضي او تجييشي لا يقتصر
على دين بعينه بل تستخدمه كل الأديان بأشكال مختلفة. يكفي ألقيام بجولة على ما يبث في مختلف وسائل الاعلام (تلفزيون، راديو، وسائل التواصل الاجتماعي ووووو) من تجييش لنتأكد من ان ما يصرف على هذه الوسائل الإعلامية من أموال وخبرات يدرك ان لها اجندات اخرى تماما عكس ماتدعيه .
لماذا استخدمت الأديان الموسيقى؟
نزعم ان الأديان في سعيها لجذب الناس تلجأ الى أساليب متعددة. هي أدركت دور الموسيقى وتأثيرها على عقول ومشاعر الناس. لذلك تستخدمها في مختلف المناسبات وفي أشكال متعددة بشكل جماعي او فردي. من حيث المبدأ لا يضر ابدا استخدام الموسيقى من اجل نشر المحبة، التفاؤل والفرح لأنها بهذا الشكل تلبي حاجة من حاجات الانسان. لكن عندما تتجاوز هذا الدور وتتحول الى أداة للتفرقة، التجييش او الترهيب فمن الضروري منعها .
في المجتمعات العلمانية يمكن لمختلف الأديان ان تُمارس طقوسها بالغناء والموسيقى وغيره ضمن دور العبادة بكل حرية شرط ان لا تلحق ضررا بالمجتمع.
خاتمة .
كما تسعى العلمانية الى كف يد رجال الدين عن التدخل في حياة الناس الدنيوية
والمجتمع والدولة عبر فصل الدين عن الدولة والتعليم، وان ينحصر دورهم وممارسة طقوسهم في دور العبادة، فانها تضمن في الوقت ذاته حقوقا متساوية لجميع أفراد المجتمع بغض النظر عن خلفيتهم الدينية او الطائفية وبغض النظر ان كانوا يمارسون الطقوس الدينية ام لا او كانوا مؤمنين ام لا .
اخيرا كما ان حركات السلم العالمية تدعو وتناضل من اجل استخدام الذرة وجميع المكتشفات العلمية لأغراض سلمية من اجل تطور المجتمعات وخير البشر، فاننا ندعو الى استخدام الموسيقى وجميع الفنون من اجل تلبية الحاجات الروحية للإنسان ونزع الطابع التحريضي عنها. وهذا باعتقادنا لا يتحقق إلا في المجتمع العلماني وهو ما نطمح اليه رغم إدراكنا لحجم الصعوبات ووعورة الطريق .
الدين لله والوطن للجميع !
*نص المحاضرة التي القاها الكاتب في ندوة أقيمت في استوكهولم بدعوة من منتدى العلمانيين السوريين في السويد بتاريخ 3/2/2019

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى