بقلم د.عدنان عويّد
مدخل:
بما أنّ الرواية والقصة والفيلم والمسرحيّة والفن التشكيليّ بكل أشكالها وفي سياقاتها العامة هي مشروع فكريّ إنسانيّ، يهدف إلى بناء وعي الإنسان وإعادة تشكيله دائما بما يخدم الإنسان ذاته وقضاياه المصيريّة، لذلك سيظل هذا المشروع مع بقيّة المشاريع الموازيّة في الفلسفة وعلم الاجتماع، يؤثر بالضرورة على عقول الناس ومسيرة حياتهم وتطلعاتهم، وسيظل أيضاً محط استخدامٍ من قبل من ينادي بتطور الإنسان وتنميته، أو من قبل من يعمل على تخلفه وتشيئه وتذريره… وهذا في الحقيقة ما يدفعنا للكتابة عن هذا المشروع كي نُظهر تلك الرؤى والأفكار والنظريات التي يستخدمها الفنانون والأدباء والفلاسفة وعلماء الاجتماع، في أعمالهم تحت ذرائع غالباً ما تتخذ من مسألة الدفاع عن حريّة الإنسان وفردانيته وقضاياه الماديّة والروحيّة وسيلة أو ذريعة. لذلك تأتي قضيّة “الأدب الوجيز” ضمن رؤى هذا المشروع بالضرورة.
لقد ركز القرن العشرون في اهتماماته الفنيّة والأدبيّة على الحداثة التقدميّة – أي ما بعد الحداثة – إلى الحد الذي كادت أن تُهمل فيه الحداثة المحافظة، أي الحداثة التي بشرت بها الحركة الأنسيّة أولاً، ثم عصر التنوير ً بعد قيام الثورة الصناعيّة ثانياً، وظهور الطبقة البرجوازيّة، كطبقة حملت المشروع النهضوي ضد استبداد الكنيسة والنبلاء والملك. وعلى هذا الأساس راح الفنانون والأدباء والنقاد الذين اشتغلوا ويشتغلون على هذه القضايا في هذا القرن، يعلنون سخريتهم تجاه أيّة صيغة فنيّة أو أدبيّة أو فلسفيّة أخرى غير الصيغة الما بعد حداثيّة.
إن ما أطلق عليهم اسم ( الفنانون الأكاديميون ) على سبيل المثال لا الحصر في القرن التاسع عشر، اعتقدوا – أي الفنانون الأكاديميون – أن ما يقومون به من أعمال فنيّة سيعمل على تحسين العالم عبر عرض أعمالهم الفنيّة التي تتضمن أو تعكس تلك القيم الأخلاقيّة المحافظة والنبيلة معاً، وهذا ما تدل عليه تلك الأعمال الفنيّة الفاضلة والمبدعة التي كانت تلهم العاطفة الدينيّة وتدفعها للعمل الصالح والنبيل الذي يطمح الجميع إلى محاكاته أو التشبه به في هذه الحياة.
أما العالم الحديث الذي راح ينعكس في الأعمال الأكاديميّة المعبرة عنه، وفي حالات تقدمه المتوالي، فلم تكن هذه الأعمال في حقيقة أمرها أكثر من تجسيد للواقع الراهن وداعم له وعارض لمستقبله بطريقة لا يهمها كثيراً الحفاظ على قيمه الإيجابيّة وتنميتها. بينما نجد الفنانين والأدباء المحافظين قد رغبوا في الحفاظ على واقعهم ومؤسساته، وفضلوا التغيير التدريجيّ التقدميّ لهذا الواقع على التغير الراديكاليّ. هذا في الوقت الذي نجد فيه أيضا أن هذه الأعمال المعاصرة (الما بعد حداثويّة) كثيرا ما كانت تُنتقد من قبل المؤسسات السياسيّة والدينيّة معا، كونها وضعت ثقتها في نطاق المنفعة الفردانيّة، هذه المنفعة التي اعتقدوا أن انطلاقتها كانت مع فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وقد وصلت الآن إلى مرحلة التفسخ الاجتماعيّ بسبب قضايا كثيرة في هذا العصر، أهمها، نمو المدن، وانتشار الفساد الاجتماعيّ بسبب مفرزات الثورة الصناعيّة، وسيادة النظام الرأسماليّ المتوحش، الذي شجع على الفرديّة، وجعل من الفرد الذي أخذ يميل إلى الشر في عالم المنافسة هذا، حيوانا متوحشا. لذلك فكل هذا، كان وراء تمجيد ( روسو ) مثلاً للطبيعة، وتشجيع العدد الكبير من الحداثيين ليعطوا حياة الريف صفة المثاليّة، وهذا هو ذاته أيضا الذي دفع ( توماس جفرسون ) للعيش في بلده قريبا من الطبيعة، وإعلان رغبته بأن يكون اقتصاد الولايات المتحدة اقتصاداً زراعيّا بكامله.
عند المقارنة ما بين الحداثة المحافظة والحداثة التقدميّة، أي ما بعد الحداثة – نجد أن الحداثة المحافظة بقيت مقيّدة بالأفكار القديمة الميالة إلى دعم القيم الايجابيّة في المجتمع المعاصر، بينما الحداثة التقدميّة، أو ما بعد الحداثة، راحت تتبنى المواقف المعادية للمجتمع ومؤسساته القائمة، ثم بطريقة أو بأخرى أخذت تناضل تجاه كل السلطات القائمة تحت اسم الحريّة، وبذلك تكون قد أساءت لقيم البرجوازيّة الليبراليّة المحافظة عن قصد أو بدونه.
على العموم ولكي لا نظلم تيار ما بعد الحداثة برمته، نحن لا نعدم في الحقيقة بعض المواقف التنويريّة العقلانيّة ذات التوجه اليساريّ إلى حد ما المشبعة بالبعد الإنسانيّ، بمعظم أنساقه المعرفيّة وفي مقدمتها الأدب والفن والفلسفة وعلم الاجتماع، وذلك من خلال اهتمام أصحاب هذه المواقف التقدميّة بالقضايا السياسيّة والاجتماعيّة، أو بمجمل ما يتعلق بهموم المجتمع المعاصر وخصوصا في هموم حلقاته الدنيا أو الفقيرة، وإلى حد ما في حلقاته الوسطى الراضيّة عن نفسها بشكل متزايد. فمن خلال أعمالهم الفنيّة والأدبيّة راحوا يبثون هموم القوى الاجتماعيّة الفقيرة في المجتمع المعاصر بشكل مباشر أو غير مباشر، مدركين ضرورة عنونتها والعمل على تصحيحها، مثل، معاناة الفلاحين، واستغلال الفقراء، والبغاء… الخ . إضافة إلى ذلك ، لقد راح هذا الفصيل المابعد حداثيّ التقدمي، وبشكل متطرف من خلال أفكار التنوير الداعيّة للحريّة والمساواة، يعمل على تثقيف العامة بغية مواجهة القوى الاجتماعيّة المحافظة صونا للحياة وخلق مكاناً أفضل لعيش الإنسان فيه. وهذا الموقف المتخذ هنا من قبل هذا الفصيل التقدميّ، وأمام موقف الحداثيين المحافظين الذين تمسكوا بالماضي والتقليد معا، فان الفصيل التقدمي هذا رفض التقليد عن قصد. ولكن بالرغم من أن الحاضر في خط حركته وتطوره الحتميّ والإراديّ يكون في سياقه العام أكثر حداثةً، إلا أن التقليد يستمر في حضوره ممتداً في نسيج الحاضر.
إنّ رفض الماضي أصبح أمرا ضروريّا بالنسبة لفنانيّ وأدباء وفلاسفة ما بعد الحداثة، وبخاصة مع قدوم الحرب الكونيّة الأولى التي عنت بالنسبة لهم الفشل الذريع للتقليد وقيمه، ثم أن الكوارث التي ولدها التصنيع والتي تجلت في نتائج هذه الحرب، بينت بشكل من الأشكال أنّ تلك الثقة العظيمة التي منحت للعلم والتقدم التكنولوجيّ من حيث قدرتهما على خلق عالم أفضل، أتبتت فشلها بشكل واضح، مثلما بينت أيضا أنّ بروز المدارس المابعد حداثويّة، كالسرياليّة والرمزيّة والوجوديّة والعبثيّة والتفكيكيّة وغيرها في الفن والأدب والفلسفة، هي علامات بارزة على انبثاق ما سميّ بـ (ما بعد الحداثة) من البنيّة الذهنيّة والعقليّة للفنان أو الأديب أو الفيلسوف أو عالم الاجتماع.
دعونا نعمل هنا على توصيف (ما بعد الحداثة) لنقول : إنّ اعتقاد طلائع الاتجاه الحداثيّ التقدميّ والليبراليّ منذ القرن الثامن عشر بشعارات الحريّة والعدالة والمساواة، غالبا ما تجلى في الفن والأدب والفلسفة بشكل واضح لا يقبل الدحض، فهذا الاتجاه الذي أصبحت الحريّة في أبعادها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافية أحد مواضيعه الهامة، مثلما تجلت الحريّة أيضا كأسلوب فني تمثل في اختيار شكل ومضمون العمل الفنيّ والأدبيّ، وذلك كله جاء تعبيراً عن ممارسة حقوق الفنان والأديب الذي آمن بتيار ما بعد الحداثة، وعمل على لفت نظر الآخرين تجاهها.
في مرحلة متقدمة من القرن العشرين، أصبحت ممارسة الحريّة الفنيّة والأدبيّة والفكريّة عموماً، متطرفة بالنسبة لمتبني هذا التيار الفكريّ أو المشتغلين عليه، فالفنانون والأدباء أخذوا يبحثون هنا عن الحريّة في صيغتها المتطرفة، ليس في مجال القواعد والقوانين الأكاديميّة للفن والأدب فحسب ، بل وفي نطاق حاجات الشعب أيضاً ، فمسألة التطرف المبكرة في الدعوة للحريّة بالنسبة لهم كانت وراء الفكرة التي راحت تقول: إن الفن أو الأدب الذي سينتج من اليوم، لم يعد في حقيقته من أجل الشعب ، بل هو من أجل الفن. أي الفن والأدب المجردين من صلتهما العضويّة بالمجتمع وقضاياه المصيريّة.
مع ملاحظة مشهد معطيات ما بعد الحداثة في الأدب والفن والفلسفة، يأتي شعار ( الفن من أجل الفن )، و كذلك الأدب من ضمنه على اعتباره شكلاً من أشكال الابداع الفني، ليشكل أساس دعوةٍ للتحرر من أيّ قيود تحد من حريّة الإنسان وفردانيته. ففي الوقت الذي نجد فيه ممارسة شعار (الفن للفن) تعبيرا عن الحريّة، نجده في أبعاده غير المعلنة ليس أكثر من ( خدعة )، و( إهانة ) مدروسة تجاه إحساس أو وعي البرجوازي في مرحلته الليبراليّة التقدميّة او الكلاسيكيّة، التي أراد فيها الفن والأدب أن يحملا معانٍ وأهدافاً وقيماً تساعد على تنوير وتعليم الأخلاق، (فلاسفة وأدباء وفنانيّ عصر التنوير أنموذجاً). وهذا لم يعد محققا في هذه الأعمال الفنيّة الما بعد حداثويّة، حيث نجد الفنان الما بعد حداثيّ على سبيل المثال يقول بمرح : ” قررت أن يكون غرض فنيّ ليس لتلك “الأشياء النبيلة ” أي نشر قيم التعليم والتثقيف والتربية.
وفي مقال للكاتب ( Oscar Wilde ) بعنوان : ( (The Soul of Man Under Socialis نشر عام 1891 جاء فيه : ( إنّ العمل الفنيّ هو النتيجة للمزاجيّة الفريدة، فجماله يأتي من حقيقة ما يكون عليه الكاتب أو الفنان، وهو في حقيقة أمره لا يملك شيئا في عمله لما يريد الآخرون تحقيقه. إن الفنان في اللحظة التي يأخذ فيها إشارة أو ملاحظة ما يريده الآخرون ويجرب تحقيقه في أعماله لا يعود فناناّ، ويتحول إلى لعبة، أو حرفيّ هزليّ، أو ربما تاجر شريف أو غير شريف، وفي نهاية المطاف، هو لن يملك أكثر من الادعاء بأنه فنانا فحسب . ). (راجع دراستنا الفن من أجل الفن المشار إليها نهاية الدراسة).
على أية حال، إنّ شعار الفن للفن، أو الأدب للأدب المعبر عن طموحات تيار ما بعد الحداثة، ويأتي “الأدب الوجيز” أنموذجاً تطبيقيّاً لهذا الشعار، ولتوجهات تيار ما بعد الحداثة في نسقه السلبيّ معاً، وهو (خديعة أو وهم) كما أشرنا في موقع سابق، تمخضت عنه نتائج عكسيّة.
إنّ “الأدب الوجيز” كنسق ادبيٍّ ما بعد حداثوي، يشتغل على تحطيم السرديات الكبرى في الملاحم الشعريّة أو الروايات. وهذا التحطيم سينال بالضرورة الكثير من التكنيك الفني في السرد وما يتطلبه العمل الأدبي من زمان ومكان وشخصيات وحوادث وتناقضات وآلام وأفراح المجتمع، وكل ما يتعلق بأهداف الأدب كوسيلة هامة لتغيير الفرد والمجتمع.
إنّ “الأدب الوجيز” يركز على الفكرة (الومضة) التي تشير إلى قضيّة ما من القضايا الماديّة أو الروحيّة، معزولة عن محيطها الاجتماعيّ والتاريخيّ.. لذلك هي أقرب – أي الفكرة – إلى موقف ذاتيّ للكاتب يعتمد على الحدسيّة والإدراك السطحيّ البعيد عن عمق أو جوهر الفكرة أو الظاهرة المطروحة، من حيث تشكلها وأسباب ظهورها وأهدافها. أي بعيدا عن سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين وأهدافها.
إنّ الأدب الوجيز في نهاية المطاف هو أدب يدخل في مضمار نظريات ورؤى ما بعد الحداثة، التي حطمت فكرة الدولة والدين والأخلاق والتاريخ وكل القيم النبيلة التي تهدف لبناء الإنسان.. أي بتعبير آخر، هي نظريات تشتغل على نطاق التفكيك وموت القيم النبيلة. وما نظريّة الأدب الوجيز في جوهرها إلا تجل من تجليات ما بعد الحداثة، فهدفها تفكيك النص الأدبيّ واقصاء الكثير من مكوناته الفنيّة وحتى الفكريّة الملتزمة بقضايا الناس ومشاكلهم الحياتيّة، لتدفع بالفكرة ذاتها إلى مجال المواقف الذهنيّة، وليس إلى المواقف العقلانيّة النقديّة التي تهتم بالإنسان وقيمه النبيلة. وبالتالي هي تساهم في تحطيم الأدب وأسسه وكل جمالياته وتكنيكه السردي وشخوصه ولغته وأفكاره العقلانيّة.
إنّ البرجوازي نفسه الذي له ذوقه وأفكاره الحداثيّة التي مثلها فلاسفة عصر التنوير، راح عبر شعار الفن للفن ذاته، يواجه بسرعة انحراف الفن والأدب عن مسارهما وتحولهما إلى وسيلة تعزز إيقاف أو إبطال مفعول المؤثرات الحقيقيّة للفن والأدب تجاه كل ما هو ضار أو مفيد في المجتمع، أي تحويله إلى فن أو أدب مجردين، وهذا ما راق له بعد أن تحوّل إلى رأسماليّ متوحش يهمه الربح، والربح فقط، تحت مظلة النظام العالميّ الجديد.
في نهاية القرن التاسع عشر، وجدت الإرهاصات الأوليّة للنقد الفني بعمومه من قبل نقاد ومؤرخي الفن والأدب، حيث كانت هذه الارهاصات النقديّة ذات مفاهيمَ شكلانيّةٍ ، مُبعدة بشكل فعال مسألة ( المعنى أو القصد ) عن مكانته أو اعتباراته النقديّة، لذلك راح الفن والأدب يناقشان قضاياهما انطلاقا من هذه الفترة – نهاية القرن التاسع عشر وصاعدا – في نطاق مفاهيمَ أنموذجيةٍ آخذين بعين الاعتبار اللون ، الخط ، الشكل ، الفراغ ، التركيب، موت المؤلف، القطع مع الماضي، تحطيم فكرة الزمان والمكان، تحطيم السرديات والتركيز على الومضات الفكريّة المشبعة بالذاتية.. الخ آملاً هذا الفنان أو الأديب ، وتحت أي اعتبار اجتماعي، أو سياسي، أو بيانات تقدميّة معلنة .. الخ ، أن ينجز عمله الفني أو الأدبي. ففي مثل هذا المقاربة الفنيّة أو الأدبيّة، تجد الفنانين والأدباء في الحقيقة، الهواة منهم، وإلى حد ما بعض المحترفين أيضا، مع تحقيق حرفيتهم واستقراهم الفني، راحوا يفقدون أهداف الحداثة الحقيقيّة في صيغتها الليبرالية الممثلة لعصر التنوير، شاؤا أم أبوا، ليستغرقوا في الأسلوب الشكلي من التفكير الفني أو الأدبي. ودفاعا عن هذا الموقف الفني أو الأدبي، أخذ الجدل يدور حول، أنّ هذا الأسلوب المتبع هنا، يعبر تماما عن وظيفة الفن أو الأدب، وهذه الوظيفة تقوم على تعزيز وحفظ قيم وأحاسيس الحياة الإنسانيّة المتمدنة، ومحاولة البقاء بعيدا عن التأثيرات المؤذية بشكل عام، وإلى أقصى حد ممكن الثقافة التكنولوجيّة في بعدها اللاإنساني .
أخيرا نقول في هذا الاتجاه: لقد ظهرت هناك فكرة أنّ الفن أو الأدب الحديثين مورسا كليّاً داخل محيط صيغي مغلقٍ، ثم راحا ينفصلان بالضرورة عن محيطهما الاجتماعي كي لا يتلوّثا بالعالم الخارجي. لقد لمس الكثير من كتاب وأدباء ونقاد “ما بعد الحداثة ” أن الأعمال الفنيّة والأدبيّة في عالم ما بعد الحداثة قد أنجزت استقلالها الذاتي في مرجعيتها ، الأمر الذي جعل الأعمال الفنيّة والأدبيّة تبدوا وكأنها ظاهرة معزولة تماما وفي شيء من النقاء الفكريّ المجرد عن الواقع، أي أنه لم يعد الفن والأدب يّحكمان من قبل دوافع إنسانيّة، بل أخذا يّحكمان في الواقع من قبل قوانين غامضة كليّاً وبأساليب متطورة. وبتعبير آخر يمكن القول أيضا في هذا الاتجاه : إنّ الفن والأدب قد انفصلا عن الزمن الماديّ وعن كل ما يتعلق بالأحداث العاديّة للناس العاديين .
إنّ الاستقلال الذاتيّ لطبيعة الفن والأدب، يعني الإجابة الصحيّة عن تلك الأسئلة المطروحة حول مفاهيمها. فتاريخ ما بعد الحداثة وفق هذا التصور، بني فقط للتأثير في نفسه، وتكون مرجعيته من ذاته كليّاً.
إنّ مؤرخي الفن والأدب التقليديين ونقادهما رغبوا بتزايد اقتراب الفنانين الآخرين من فن وأدب ما بعد الحداثة، مثلما رغبوا أيضا بذاك النوع من الحديث الذي أخذ يدور حول الفترات التي راحت تتزايد فيها قيمة الوهم، عن إمكانيّة أنّ تاريخ كتابة الفن والأدب يمكن أن تتم وفقا لخط عظيم واحد من الترابط المنهجي المنظم، بالرغم من إيمانهم بأنّ التنظيم أو النظام يسمح للمرء أن يربط الفن والأدب المفضلين في الفترة المعيوشة بفن وأدب الماضي الأصيل، وذلك من خلال إمكانيات استعادة الملاحظات المنطقيّة للتقدم في الزمن الماضي، ولكن هذه الإمكانيات على ما يُعتقد، هي رأي غير مهم هنا، وأريد تسويقها في مفاهيم على ما يبدو أنها ذات ميول تاريخيّة عاطفيّة، لم تصمد أمام حتمية التطور، وخاصة في حقل النظام العالمي الجديد الذي فرضته طبيعة الرأسماليّة بعد أن أصبحت متوحشة، وتجاوزت هي ذاتها قيمها الليبراليّة التنويريّة العقلانيّة مع بداية صعودها.
أما بالنسبة لجهة المؤسسين المحافظين، فقد فقدوا قدراتهم على الصمود حقيقة، أمام التيار الشكلانيّ كأداة أو موقف منهجي فعال جدا في توجيه الفن والأدب المنفلتين من عقالهما، والمشوشين إلى حد كبير. فالعديد من التيارات الفنيّة والأدبيّة والفلسفيّة وعلم الاجتماع، راحت تّفرخ في النصف الأول من القرن العشرين، الأمر الذي حال ما بين رغبات المؤسسين المحافظين، والسيل الجارف لتيار ما بعد الحداثة بكل أنساقه المعرفيّة، التي راح كتابها وفلاسفتها وأدباؤها وفنانوها يشتغلون يداً بيد مع سوق الفن والأدب والفكر الذي كان مهتما فقط بالنقود وليس بالمعنى. هذا السوق الذي استوعب وبحيويّة كل المحاولات التخريبيّة والهدامة، أو كل ما هو ثائر على الطبيعة والمجتمع وقيمه الإنسانيّة.
نعم.. إنّ تحييد الفن والأدب في عالم ما بعد الحداثة، ذاته قد نال مسألة تنظيم الأعمال الفنيّة والأدبيّة التي كانت تستخدم من خلال العمل الإبداعي لتاريخ الفن أو الأدب، فهذه اللوحة قد أصبحت وإلى حد كبير مجردة أيضاً من أي معنى حقيقي أو أصيل بالنسبة للعمل الفني أو الأدبي. فكل ذلك ، كان يؤكد وبشكل لا يقبل الشك، بأن الصيغة الجماليّة الشكلانيّة تريد امتلاك الأولويّة في تقرير وظيفة الفن والأدب، بدلاً من التركيز على مضمون العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة للمحيط الاجتماعيّ التي يوجد فيه الفنان أو الأديب، ومحاولة تغيير هذا المضمون نحو رقي الإنسان وتقدمه.
على العموم ، بالنسبة للفن والأدب لكي يكونا وسيلةً فاعلةً من أجل تطوير المجتمع، فهما يحتاجان إلى أن يكونا قابلين للفهم من قبل جمهور المهتمين من الناس قدر الإمكان، ولكون الفن والأدب لم تكن أهميتهما تكمن في كونهما مجرد صورة أو كلمة أو فكرة مجردة خارج السياقات التاريخيّة، بل إنّ أهميتهما الحقيقيّة والصادقة تكمن وراء هذه الصورة أو الكلمة أو الفكرة المشبعة بالقيم الإنسانيّة، داخل الحقل التاريخي لنشاط الناس الماديّ والروحيّ معاً. فالفن والأدب ليسا صيغةً واحدةً من جهة، والصيغة الواحدة ذاتها قابلة لأن تعطي دلالات عدة من جهة ثانية، ولكن هناك شيئاً واحداً يدعى ( فناً أو أدباً )، وهو عنصر مشترك مع الكل، ومهما يكن هذا الشيء الفنيّ أو الأدبيّ، فهو شيء كونيٌّ يشبه الحقيقة العلميّة في الفهم التنويري، والفن والأدب بعمومهما قد امتلكا هذه الشيء أو هذه السمة بكل وضوح .
ملاك القول: إنّ أول خطوة كانت باتجاه طريق التجريد ابتدأت مع العمل على إبعاد كل العناصر التي تساعد على إخفاء أو إبعاد الأهداف المميزة للعمل الفنيّ أو الأدبيّ التي تميل إلى تحقيق وظائفهما الاجتماعيّة. هذا وقد كان الفن والأدب في المدرسة التجريديّة أو السورياليّ أو الرمزيّة أو البنيويّة أو التفكيكيّة أو التعبيريّة أو الوجوديّة وغيرها، ويأتي “الأدب الوجيز” بالنسبة للبعض ممرا أيضاً لتحقيق أهداف أخرى تتعلق بالجانب الروحيّ أكثر من الجانب الماديّ، وباعتقادي أنّ دعاة الأدب الوجيز اليوم هم يريدون بعلمهم أو بدونه، على أن يكون الأدب الوجيز مصدر إلهام روحي آخر أمام ضياعات الإنسان في وجوده الاجتماعي، أي ضياعه في عالم إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة.
إنّ التجريديّة وكل مدارس ما بعد الحداثة الفنيّة والأدبيّة والفلسفيّة وغيرها، تعمل على استخدام نوع من التخطيط البعيد عن العالم الماديّ، عالم الإنسان في علاقاته اليوميّة المباشرة، لقد امتلكت مدارس ما بعد الحداثة إمكانياتٍ كبيرةً في الإيحاء، أو الوصف أو الإيماء المجرد إلى عالم الروح.
*كاتب وباحث من سورية
المراجع:
إن هذه الدراسة قامت على مرجعين أساسيين هما:
1- (الفن من أجل الفن – قراءة في المفهوم.) وهي دراسة قمت بترجمتها للكاتب Christopher L. C. E Witcombe – Art for Art’s Sake – witcombe.sbc.edu/modernism/roots.html، وقد نُشرت في العديد من المواقع الالكترونيّة العربيّة يمكن الرجوع إليها.
2 – (كتبنا قضايا التنوير – إصدار دار التكوين – دمشق – 2010. راجع الدراسات المتعلقة بالحداثة وما بعد الحداثة.