الأخبار: ذخائر الحرب الناعمة.. بيانات ووثائق التمويل الغربي للمنظمات غير الحكومية
تحت عنوان “ذخائر الحرب الناعمة: بيانات ووثائق التمويل الغربي للمنظمات غير الحكومية”،كتبت جريدة “الأخبار” تقريرا حول هذا الموضوع جاء فيه:
بدأ في لبنان منذ سنوات انتشار ظاهرة المنظمات غير الحكومية المموّلة من صناديق معظمها أوروبية وأميركية تغذّيها أموال حكومات أو أفراد أو القطاع الخاص في هذه البلدان. تقوم هذه المنظمات في أغلب الأحيان بخدمات تملأ فيها الفراغات التي تتركها الدولة اللبنانية المتلكّئة عن القيام بمسؤولياتها. تفاقمت هذه الظاهرة إثر أزمة النزوح السوري وشهدت أخيراً مراحل من التسارع في الانتشار، بخاصة في ظل الانهيار الاقتصادي وعقب انفجار مرفأ بيروت. عطش لبنان للعملة الصعبة جعله يقبل بأي دولار قادم بلا حسيب أو رقيب وإن كان على حساب سيادة الدولة ونفوذها، ووصل به إلى حدّ أن هناك صناديق لها القدرة على صياغة السياسات وتحديد الأولويات أكثر من الدولة نفسها.
في هذا السياق، تخصص «الأخبار» انطلاقاً من هذا الأسبوع قسماً خاصاً لتتبّع أخبار ونشاطات هذه الصناديق التي تتصرّف كما لو أنها حكومة بديلة وإن كانت غير منتخبة. وتماماً كما الحكومة اللبنانية لا تبدو صناديق الحوكمة الرشيدة ونشر الديموقراطية معنية بالرقابة ولا بالمساءلة، أقلّه محلياً، إذ إن قراراتها غير معنية بآليات الحكم في لبنان. لكن كون هذه الصناديق ذات تأثير كبير على السياسات المتبعة والقوانين المقرّة في لبنان، فلا بدّ من أن نتعامل معها، في «الأخبار»، على أنها سلطة من السلطات الموجودة في البلد، خصوصاً أن بعضها قرّر خوض غمار الانتخابات النيابية، علناً أو سرّاً.
بدايات الحوكمة غير الحكومية
انتهت المرحلة التاريخية المسمّاة الحرب الباردة مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 بعد أربعة عقود ونصف عقد من «البرودة» التي شهدت إنشاء الكيان الصهيوني وحروباً ملتهبة على امتداد العالم. شهدت هذه الحقبة أحداثاً دموية كثيرة في منطقتنا، منها الحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي لبيروت وغيرها من الأحداث التي تجعل وصف الحرب بـ«الباردة» نكتة سمجة بالنسبة لكل من عايشها. الحرب كانت باردة فقط على الجبهة المباشرة بين القوتين العظميين اللتين كانتا تخوضان الحرب، أما الجبهات الأخرى في بلدان الجنوب فشهدت كل شيء إلا البرودة. خريطة العالم الجيوسياسية تغيّرت بشكل بارز في تسعينيات القرن الماضي، إذ باتت محكومة بهيمنة القطب الأوحد. لم تغب الحروب المشتعلة بعد انتهاء الحرب الباردة. إذ تمت تصفية حسابات في أكثر من منطقة في العالم وأبرزها في عالمنا العربي. لن ندخل في تفاصيل النزاعات التي نشبت الآن، لكن الحقبة التاريخية التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي شهدت توسّعاً كبيراً لما يسمّى بالقوة الناعمة للولايات المتحدة بدءاً من دول الاتحاد السوفياتي السابقة ودول الكتلة الشيوعية وصولاً إلى كافة أرجاء المعمورة. لم تنشأ أدوات القوة الناعمة في حينها، إذ كانت تستخدم من قبل. لكن سياسة الولايات المتحدة الخارجية شهدت توسعاً في استخدامها بعدما رأت فيها القدرة على النجاح الاستراتيجي بكلفة قليلة نسبياً. أول من استخدم مصطلح القوة الناعمة كان جوزف ناي من جامعة هارفارد في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وشرح مفهوم القوة الناعمة على أنّه التمكّن من جعل الدول الأخرى تريد وتطلب ما تريده الدولة الممارسة للقوة الناعمة منها بدلاً من إجبارها على ذلك بالقوة. لكن كما برودة الحرب الباردة، فإن نعومة القوة الناعمة مدمّرة جداً وقد تكون دموية عند الحاجة.
أدوات القوة الناعمة ترتكز على الإغراء والإقناع، لكنها تهدف في نهاية المطاف إلى تغليب مصالح من يمارسها على تلك التي تخص من تمارس عليهم القوة وإن كانوا مقتنعين بالعكس. إنها أدوات لتكريس هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية تكون فيها اليد الأعلى دائماً للمهيمن. سنتطرّق إلى تفاصيل هذه الهيمنة على مراحل. إذ إن تأثيراتها مرئية بشكل جليّ في بلد مثل لبنان على كافة المستويات، والمشروع اللبناني منذ تأسيسه كان يفترض أن يكون مثالاً ناجحاً عن إنجازات القوة الناعمة الاستعمارية ليتمثّل فيه محيطه ويسعى لتقليده إبان تفكك الدولة العثمانية. لكن لندع التاريخ جانباً للحظة ونقفز إلى الحاضر. فهيمنة واشنطن السياسية والاقتصادية والثقافية متجذّرة، وحربها «الناعمة» لإبقاء الوضع على ما هو عليه مستشرسة في ظل صعود قوى عالمية أخرى تنافس هيمنتها. من كازاخستان التي تتوسط غريمتي الولايات المتحدة الكبريين، روسيا والصين، إلى كوبا الجزيرة العنيدة المتاخمة لولاية فلوريدا، شهدت الأشهر القليلة الفائتة دعوات «شعبية» تطلب من حكوماتها أن تمتثل لسياسات القويّ الناعم. الشعارات ليست بهذه الصراحة، بل تتلطى خلف شعارات أكثر قابلية للرواج كالحرية ومكافحة الفساد، وإن كانت المعارضة الكوبية أكثر صدقاً في تعبيرها عن معاداة نظام الحكم الاشتراكي في كوبا. هذه ليست المرة الأولى التي تتحول القوة الناعمة للولايات المتحدة الأميركية إلى تظاهرات شعبية مطالبة بقلب الحكم وجعله متماهياً أكثر مع سياسات واشنطن وحلفائها الغربيين. ثورتا أوكرانيا وجورجيا منذ ما يقارب العقدين من الزمن أهم مثالين عن هذه المحاولات ونجاحهما شجّع واشنطن على المضي في نموذج الثورات الملونة في أكثر من مكان.
صناديق باندورا الاستعمارية
لكن ما الذي يجعل «الشعوب» تريد وتطالب بما تريده منها الإمبراطورية؟ نعود هنا إلى مبدأ الإغراء والإقناع الذي يأخذ أشكالاً مختلفة. قد يفي فيلم أو مسلسل هوليوودي واحد بالواجب وإقناع المتلقي أن رامبو هو من ينقذه من محنته. لكن عند شعوب مرّت بتجارب بديلة عن الهيمنة الرأسمالية الحالية، لا بد من التعمّق أكثر من أجل خلق وعي بديل يطلب ما يريده المستعمر من دون أن يبدو كذلك. أدّى الملياردير المجري الأصل جورج سوروس، عبر منظمات غير حكومية، هذا الدور بنجاح في أوروبا الشرقية خدمة للسياسة الخارجية الأميركية، ما كرّس هذه القناة ركيزةً معولمة لنشر الأيديولوجيا النيوليبرالية التي تحبذها الإمبراطورية. كما كرّست هذه التجربة سوروس جناحاً غير حكومي في السياسة الخارجية لواشنطن يقدّم خدماته حول العالم وفي أكثر من مجال. سوروس ليس أوّل الوكلاء غير الحكوميين للإمبريالية ولا آخرهم، لكنّ اسمه بات مرتبطاً بهذا النشاط أكثر من غيره ممن يقومون بأدوار مشابهة بعيداً من الأضواء. آخر خدمات سوروس لواشنطن كانت الهمروجة الإعلامية التي رافقت تسريب الوثائق المسماة «وثائق باندورا» قبل أشهر. المنظمة التي تولّت تنسيق نشر التسريبات من واشنطن مموّلة من سوروس، كما عدد كبير من الشركاء الذين نشروا ما وصلهم، أبرزهم «مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد» الذي انطلق من أوروبا الشرقية قبل التوسع باتجاهنا وصوب آسيا الوسطى. الهدف من كل ذلك لم يكن إلا مكافحة التهرّب الضريبي خدمةً للخزانة الأميركية. اللافت في اسم التسريب أنهم اختاروا «باندورا» من الميثولوجيا الإغريقية، والتي كان صندوقها يحتوي على كافة شرور البشرية من جشع وغرور وافتراء وكذب وحسد ووهن ووقاحة. وهذا الوصف إذا انطبق على أحد فهو على ملياردير يخدم الإمبريالية تحت غطاء العطاء.
مليارات لبنان البديلة
في لبنان، هناك مليارات الدولارات مصدرها صناديق التمويل «الناعمة» التي صرفت وتصرف على آلاف المشاريع التي تقوم بها جهات غير حكومية. هذه الأموال قد تحدّد سياسات ما وفقاً لمصالح لا تتوافق بالضرورة مع خيارات الشعب، وهي فعلت ذلك في أكثر من مرة. كما أنها قد تحدّد أولويات الخطاب الإعلامي في مرحلة أو قضية ما من دون أن يُعرف من قرّر هذه الأولويات. إضافة إلى ذلك، تغلغلت أموال هذه الصناديق إلى قلب مؤسسات الدولة بحجة تدريب من هنا ودعم من هناك. ولا يقتصر هذا التغلغل على المؤسسات التربوية والصحية والغذائية والتنموية والخدماتية بل وصل إلى أماكن حساسة في المؤسسات الأمنية والعسكرية.
هذه الصناديق «المعطاءة» التي تؤمّن الاسترزاق لكثيرين حول العالم، تساهم أيضاً في خلق شريحة شعبية تعتاش من الارتزاق وتتماهى مصالحها مع مصالح صاحب قرار التمويل الذي قد لا تتناغم أولوياته مع أولويات الشعوب. نقول قد لا تتناغم افتراضاً لحسن النية لدى بعض هذه الصناديق، وإن كان ذلك يتناقض مع مفاهيم التحرّر من الاستعمار والسيادة، بل يشكّل ذلك في بلدٍ أدمن الاستجداء والتسوّل تجسيداً للمداواة بالتي هي الداء كما وردت في بيت شعر أبي نواس الشهير.
* ترقبوا هذا الأسبوع في «الأخبار» أول ملفات ذخائر الحرب الناعمة عن «منظمة المجتمع المنفتح» Open Society Foundation:
جورج سوروس: عرّاب الـNGOs
مالوك براون: ذراع سوروس المؤسساتي
أموال سوروس عربياً: لبنان أولاً
حوكمة النفط والغاز: نقّب عن سوروس
سوروس وثقافة العرب
تعاونية الشخص الواحد
بالإضافة إلى أرقام ووثيقة مسرّبة