الآن وبعدما عزمت على السفر لما اعتراني من خشية ما يُسمّى بفوات الآوان .
الآن وقد عدت إلى ما كنت عليه ، بعدما تمكنت من سفر كان يعتب يوميّا على تأخّري في حزم الحقيبة.
الآن وقد حققت رغبته ، عدت من مطارات خاليّة إلاّ من قلة مُسافرين يسعون للسفر لسبب إضطراري أو لآخر، وأقول بشجاعة التنقل في زمن الكوفيد ، يتحدّون الفراغ ، الخوف ، المُعقمّات والكمّامات ، ويتحدّون شركات الطيران التي توقفت عن دورها ورسالتها في الإقلاع والهبوط وتواصل البشر ، ومع توقف العديد من الرحلات الداخليّة والدوليّة استنادا لما يمليه مزاج الكوفيد ، وبحيث بات السفر أشبه بسفر القروي “ألفين” ( الممثل ريشارد فارنسواث) مع المُفارقة بالطبع ، الذي تناولتُه في نص سابق كقصة حقيقيّة ، وهو استخدم جرارته الزراعيّة قاطعا المسافات لعدة أسابيع كي يلتقي أخيه المريض .
الآن وقد عُدت من ثقل سفر(بكسر السين) الكوفيد الذي لم تذكره التوراة ولا الأناجيل، تكبدّت فيه عناء ومشاق الوصول كما العودة ، في مطارات تشهق في فراغها ، مشلولة تشغلها إرهاصات تدقيق فريد لم أشهد مثيلا له ، كونترول استبدل مُهمّته الإعتيادية في التحقق وتعقّب المطلوبين ، المجرمين والمخالفين بمهمة تعقّب فيروس لامرئي .
التدقيق اليوم في المطارات اليوم يعني أوراقا ونماذج عليك بملئها قبل السفر كي تأتيك الموافقة على سفرك، والعكس صحيح ن، وأنت لم تزل في سكنك مُقيما لم تتحرك بعد، ثُمّ تلحقك أخرى خلال سفرك وأثناء خروجك من هذه المطارات وبعد قدومك إليها .
أوراق ونماذج جمّة للجهات الصحيّة كما الأمنيّة (البوليس) التي لا يُعنى محتواها بالإرهاب أو بالمطلوبين للعدالة كما درجت العادة ، وعلى ما يبدو أنّ هذا الهم لم يعد يوليه أحد اهتماما ، لأنّ ما يعني السلطات من خلالها اليوم فقط قراءتهم لتأكيد المسافر أنّه أجرى الفحص المطلوب وأنّه خال من الفيروس .هذا هو همّها الأكبر !
في المطارات يتحوّل المُسافر إلى جرثومة ويصبح الفيروس بعينه .
المطارات خاليّة إلاّ من الكونترول هذا ، يدور فيه موظفون مسعورون ، يرغبون في إنجاز مهمتهم بسرعة قصوى وعصبيّة كي لا يلحق بهم المرض .
مقاعد المطارات خالية ، أضاع القيّمون وقتهم في تنظيمها وتوزيعها حسب المسافة والتباعد ، مقعد مسموح ومُلاصق ممنوع .. وهكذا دواليك ” كرسي أي وكرسي لا ” دون أن يحتلّها أحد .
وأخيرا يتم الإفراج عنك ، وتعتقد أنك ارتحت بمجرد وصولك إلى مقعدك والتلاشي فيه سعيا للإسترخاء من هذه المُلاحقة ،وكي تنتقل إلى عالم مليء بالأحلام وتخيّل اللقاء بعدما منعني انتشار الفيروس من السفر على مدى عام ونصف العام !
تغض النظر داخل الطائرة عن تحوّلها إلى بولمان ، عملت شركة طيران الشرق الأوسط ـ التي أشكرها للمجازفة في نقلنا في ظل توقف الطيران الإيطالي ـ على جمع ما استطاعت من مسافرين تعويضا للخسائر دون التقيد أحيانا ب “منظومة التباعد”على متنها .
داخل الطائرة المسافر طفل وديع يلتزم بالكمامة ، التي ينزعها عند رؤيته الطبق القادم على العربة ، يحين دور الجميع في تناول الطعام الذي يطول انتهاؤه عن العادة ، فالوجبة هي الحل الوحيد لاستعادة التنفس الطبيعي ، وتدريجيّا تتحوّل الطائرة إلى فم مفتوح على مصراعيه دون كمّامة ، غير آبه بالعدوى وتسقط معه بالتالي كل القوانين والتدابير الإحترازيّة .
على المقعد الذي أحببته أكثر من أي وقت مضى استرخيت وأغمضت عيناي كي استجمع ما تفتّت مني .
تعتقد أنّ الأوراق انتهى دورها ولن تنازعك أو تقضّ هدوءك ، لكنها تلاحقك على متن الفضاء مع مرور المضيفة في آخر لحظة ، تعمل على توزيع نسخ أخرى ونتحول تلاميذ في صف مدرسي ، نعمل على ملء أجوبتنا بسرعة قبل أن يغدر بنا الهبوط .
وإن بدت المسألة كأنّها انتهت مع وصولك وخروجك من أبواب الطائرة بل أبواب الله الواسعة ، وأنّها باتت مُضجرة بإيقاعها هذا، لكن قد يُخيّل إليك أنها أفلست و لم يعد لديها أيّة فرصة في انتهاكك ، فتسترجع حلمك بخروجك سعيدا مُنتصرا بعد حصولك على الحقيبة ، تمشي معها بعنفوان واثق الخطوة نحو الحريّة ، إلاّ أنّ فرحتك لا تكتمل فيتم وأدها آخر الطريق مع رؤيتك على بعد أمتار قليلة مجموعة ممرضين ينتظرونك بقاروراتهم وعيدانهم بما يُشبه فيلم رعب ، وليس بوسعك إلاّ الإمتثال لفحص عيني جديد ، تستسلم لهم وتمدّهم بأنفك قائلا “خذوا ما تريدونه واتركوني حرا أرحل” ، وكأنّ كل ما قمت به من قبل لم يكن مُجديا ، لا الفحص ولا الأوراق والنماذج ولا القلق الذي انتابك ، وتتحول ساحة مغادرة المطار إلى مستشفى وخيمة لكوفيد .
الآن وقد عُدت من سفر لا يتجاوز الأسبوع كرسته لرؤية أمي واخترته متحديّة الكوفيد وغصبا عنه ، مُتحملة استمرار مسلسل الرعب لغاية وصولي إلى أرض الوطن وقبولي بقضاء نصف أيّام رحلتي في الحجر راضية كي أكون على مقربة من جئت لأجلها.
الآن وقد عدت من سفر أسفار الكوفيد استمرأسبوعا وانصرم ، أسبوع مشحون بالتفاصيل ، يُرافقني حنو بسمة عينيها الهانئة وكأنّ لا ألم ،
ترافقني عباراتها القليلة لما تلوذ به من صمت ، ” شفتك بالحلم إنك جايية ” ، ومناداتها لي عند الرابعة فجرا بينما كنت أستعد للمغادرة على مهل كي لا أوقظها .
الآن وقد عدت أقول بصراحة أنني لم ألمح المدينة كما اعتدت واعتادت ،
أمشي في طرقاتها وزواريبها لأطمئن عليها وعلى الذاكرة ما بيننا .
لم أعش المدينة كما اعتدت ، للمرة الأولى لم أجرؤ على رؤيتها ، لمحتها لمرّة واحدة كانت كافيّة لرؤية مدينة تصفر مرتين من عزلتها ومن حجرها .
كنت أشبه المدينة بفراغها وعزلتها وحجرها .
عدت تُرافقني خيالات لمدينة أحكمت غيابها ، أقفلت أبوابها ، تخلو من محلاتها ، رزقها وناسها وحلمها ، وإن كان الترحاب واللقيا لا يفارق من التقيت بهم على عجل مُصرين على اللقاء .
كل المدن تشبه بعضها في زمن الكوفيد ، لكنّ بيروت مُقفلة ولا شبه لها.
المدينة كانت مُقفلة ليس خوفا من العدوى أو الإصابة ، ليس بسبب موانع الكوفيد بل لأنها أشبه بأرملة فقدت بعلها وطنها . تجول بعينين خاليتين من الضوء ، بصمت دون الرغبة في معرفة أمسها من غدها .
والمدينة ستظل مُقفلة وإن عادت للهيصة ما بين فينة وأخرى .
لا تجرؤ على الكلام ولا من يعترض ، فالإعتراض لا يُمكن حصوله إلاّ حين يكون الجرح سواسية كما الصرخة والغضب والتأوه .
ينطفئ المتألمون على مهل ، ولا من يستقيل ممن اهترأ على كرسيه ،
” تمسحوا” يتسمّرون في أماكنهم ولا من يرميهم بحجر ، لا يقلقون ويعتقدون أن الناس اعتادت وقادرة دوما على أن ” تُسيسر” أمرها .
فاحشون كأسعار تجار بلا رقابة.
هي مدينة أضافوا إليها منصة كوفيد إلى جانب منصّات الفقاقيع البالونية ،
جهدوا طويلا في اختيار اسم يميزهم ، إلى أن توصلوا إلى اختراع ما سمّوه بالمنصة وأذوناتها المُتحايلة ، وما هي إلاّ منصة انتظار جديدة .
لا يتألم شعب في بلد إلاّ إذا كانت مهنة مسؤوليه الرئيسة ومصلحتهم الغالبة على ما عداها هي الصرافة بكل معانيها السياسية والإقتصادية والطائفية ، ولإزالة هؤلاء لا بد من القيام بما لم تقم به الناس بعد ، كما كتبت يوما في نص جمهورية الصرافين بتاريخ 14 من الشهر الخامس للعام 2020 .
المدينة أرملة ، لأنها فقدت البلد الذي لم يرافقه الحرص على حصة الآخر.
انقضّ من انقض على الطبق طمعا ، جشعا وبشراسة ، التهموه دون مراعاة جوع الآخرين .
انقضّوا على البلد ،نهبوه وترملت المدينة .
***
الآن وقد عدت متأرجحة كالعائم دون ماء ،
سأمتثل للحجر تأنيبا لوجودي خارج البلاد و ” ليس عليّ أن أكلم أنسيّا لأيام ” .