الآباء يسهرون والأبناء …(حيّان حيدر)

بقلم د. حيّان سليم حيدر – الحوارنيوز
مع سدول مختلف الستائر على العام الدراسي، إستعادت ذاكرتي رسائل والدي، رحمه الله، وهو في موسكو، والتي كنت أتسلّمها، وأنا في لبنان، على وقع إمتحانات البكالوريا النهائية بفرعيها الأدبي والرياضيات، وبمنهجيها الفرنسي واللبناني.
وإذا كان التراسل بين الأب والإبن أمرًا طبيعيًّا، فإنّي رأيت في هذه الرسائل ما تجدر مشاركة القارىء بها. إليكم مقتطفات من بعضها كما وردت في حينه وليس بالضرورة بالترتيب الزمني.
وأبدأ برسالة تعبير عن الشوق الأبوي:
” موسكو \ 14 تشرين الثاني 1963
عزيزي حيان ،
قبلات وأشواق. قبلات الحنان والعطف والتقدير، وأشواق الأبوة (والأمومة) لوجهك الصبيح البسّام، ولروحك الصافية المرحة، ولشخصك الحبيب يملأ البيت عافيةً وبشرًا. نحن هنا يا بنيّ في وحشة من بعدك لا توصف. كلما كرّت الأيام زاد شوقنا وتحركت الذكريات. أكتم عواطفي أمام أمك لئلا أهيج شجونها، ولكنها هي لا تفتأ تذكرك، وتبكي فتبكيني ! إنّ الفراق صعب يا بنيّ، وعزاؤنا الوحيد أنك عاقل مدرك، وأنّ بقاؤك في بيروت بناء لمستقبلك. “
وننتقل إلى تحديد أصول المراسلة:
” موسكو \ 9 كانون الأول 1963
عزيزي حيان ،
قبلات وأشواق. أخذت كتابك الأخير وفيه الإفادة المدرسية بأنك مسجل هذا العام، وقد كنت أنتظرها بفارغ الصبر. أهنئك أولًا بعلاماتك وأرجو أن يدوم نشاطك واجتهادك، فنحن في عصر لا ينجح فيه إلا المجتهدون. وأرجو أن ترسل لي ورقة علاماتك لأني أحب الإحتفاظ بها.
… أراني مضطرًا لإعطائك بعض النصائح في طريقة تحرير الرسائل:
1-ً ضع التاريخ في رأس الصفحة الأولى.
2-ً أخبرني في مطلع رسالتك عن وصول رسالتي الأخيرة وضع تاريخها أيضًا.
3-ً وخصوصًا، أعد قراءة رسالتي قبل الجواب عليها، أو ضعها أمام عينك وأنت تكتب الجواب. لأني لاحظت أنك تهمل الجواب على معظم ما أكتب إليك. “
ومنها إلى أهمّ النصائح في خوض غمار الإمتحانات:
” موسكو \ 9 أيلول 1963
عزيزي حيان ،
أخذت رسالتك فامتلأ قلبي سرورًا. خطها جميل وانشاؤها سلس ولغتها صحيحة. إنها أول رسالة باللغة العربية من ولد لي. وعلى أن الأمر عادي جدًا، فقد سررت بها لأننا كنا حتى الآن نتراسل بالفرنسية. فثابر يا ولدي على الإعتناء باللغة العربية. إنها لغتنا ومبعث فخرنا وركيزة قوميتنا العربية وحافظة كنوز حضارتنا.
تصلك رسالتي وأنت في معمعة الإمتحانات. فهل لي أن أكرّر لك بعض النصائح؟ خذ وقتك بقراءة نص السؤال وتمعّن به مليًا. إنتبه للعمليات الحسابية (الجمع والطرح والضرب والقسمة) في الرياضيات ومسائل الفيزياء أو الكيمياء، وانتبه للفاصلة (virgule) إذا كان العدد كسورًا مئوية، فهذه الأخطاء البسيطة تؤثّر كثيرًا في العلامة، لأنّ المصلح يريد جوابًا صحيحًا، ولا يكفي بأن تكون طريقة الحل صحيحة. واحفظ المبادئ العامة (Théorèmes) والصِيَغ (formules) وراجع المسابقة قبل أن تسلمها للناظر وتترك القاعة. وفي الأدبين العربي والإفرنسي، فكّر كثيرًا لتفهم الموضوع ولا تخرج عنه، واكتب بخط واضح دون أن تشطب وتصلح، وذلك يقتضي أن تكتب مسودةً أولًا، ولا تكثر من الإستشهاد بأبيات الشعر، بل اقتصر على المهم، وحاول أن يكون إنشاؤك راقيًا مع الوضوح التام، ولا تطل الشرح في التفاصيل، فأربعةٌ من الصفحات كافية لمعالجة الموضوع، وأقصى العدد ست صفحات. والله يوفقك يا ولدي، ويقرُّ عيني بك. “
ومع متابعة الأب الدقيقة والدؤوبة:
” موسكو \ 12 حزيران 1964
عزيزي حيان ،
قبلات وأشواق. أخذت رسالتك أمس … وقد فهمت من رسالتك أن إمتحانات البكالوريا الفرنسية قد بدأت الإثنين في 8 الجاري، أي أنك قد انتهيت من الخطّي الآن وأنت تنتظر النتيجة. فأرجو لك النجاح يا بني، وأضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يثيبك على جهودك. وأرجو أن تبرق لي بالنجاح فأنا على أحرّ من الجمر. وإذا كانت النصائح العملية لم تعد تجدي، لأنك قدمت المسابقات، فإني لأشعر بجدواها للبكالوريا اللبنانية، وهي بعدُ لا يفوتك معناها: خذ وقتك وفكّر مليًا بالموضوع واكتب مسودَّةً وصلّحها قبل أن تنقلها على البياض. وفي أعمال الرياضيات والعلوم، عاود التفكير بعد حل العملية واعمل التجربة إذا أمكن … أعمل كل الوسائل لتكون أكيدًا من صحة ما تُقدّم. وفي الإمتحانات الشفوية لا تخف ولا تجب بسرعة، بل فكّر قليلًا بالموضوع. والله وليّ التوفيق. “
… وقد حان وقت القطاف…
” موسكو \ 23 حزيران 1964
عزيزي حيان ،
قبلات وأشواق. اليوم أخذت البرقية المنتظرة، فأهنئك يا بنيّ بالنجاح، وأرجو أن يكتب لك الله مثله في البكالوريا اللبنانية فتقر بك أعيننا وتنال أنت ثواب جهودك. إنّ أجمل شيء يقدمه المرء لنفسه وذويه ووطنه وربّه هو النجاح في العمل الذي وقف نفسه عليه. “
وإذا كان من الطبيعي ملاحظة شدّة الحرص الذي كان يبديه والدي الحبيب على العلم والتعليم والتربية والثقافة، بحكم خلفيته الثقافية والمهنية والوظيفية، وهو الأديب والشاعر والفيلسوف والناقد الأدبي، وهو القانوني والسياسي، وهو وزير التربية الذي حرص على فتح المدارس وإنشاء الجامعة اللبنانية، فأعجب كيف كان يغدق من وقته لمتابعة تعليمي، وكان في هذه الأثناء سفير بلاده لدى الإتحاد السوفياتي، مع كلّ ما تعنيه هذه المهمة من إنشغالات على أهميتها في تلك الحقبة من التاريخ. كيف كان له أن يكون الأستاذ والتلميذ معًا، الأب المُرشد والأخ القلِق، اللجنة الفاحصة والمُمْتَحَن. كيف؟
أبي الحبيب، سلِمت يداك.
أبي الحبيب، رحمك الله.
بيروت، في 15 تموز 2025م.
حيّان سليم حيدر



