
كتب د.سعيد عيسى – الحوارنيوز
في عصر تدفّق المعلومات، أصبح “اقتصاد الانتباه” أثمن عملة سياسية، ويُعرّف هذا الاقتصاد بأنّه نظام تُدار فيه الصراعات عبر التحكّم في ما يركز عليه الناس على اختلافهم، وكيف يفكّرون، ومتى يغضبون. والنخب السياسية اللبنانية أتقنت هذا الاقتصاد، فهي لا تبيع وعوداً، بل تبيع انقساماتٍ، لا تقدم حلولاً بل تنتج أزماتٍ دائمة لتبقى في السلطة، وتستفيد من سلطانها ونعائمها.
واقتصاد الانتباه هذا، هو معادلة رياضية مبطّنة، تعتمد على المعادلة التالية: “قيمة النفوذ تساوي حجم الانتباه المُسيطر عليه مقسوماً على قدرة تحويله إلى قرارات”. والمفهوم هذا صاغه العالم الأميركي “هربرت سايمون” في اسبعينيات القرن الماضي وطوره مفكرون أمثال المتخصص في “أنطولوجيا الرأسمالية الخوارزمية” الكندي – الفرنسي “تيبو ديفو” وعالم الاجتماع اللبناني – الفرنسي “جوزيف ضاهر”.
وببساطة، فـ “الانتباه” مورد نادر في عالم يفيض بالمعلومات، والسياسيون والشركات يتنافسون لسرقته عبر الإثارة، الخوف أو التضليل. وفي لبنان، تحوّل هذا المفهوم إلى سلاح يستنزف طاقة الناس في صراعات وهمية، بينما يسطرون على ثروات البلاد ومقدّراتها خلف الضجيج الذي يثيرونه.
ولبنان لم يعد مجرد دولة تعاني من الأزمات والانهيار، بل تحوّل إلى “مختبرٍ عالمي” لهندسة العقول. فكل كارثة أو أزمة سواء كانت مالية أو اقتصادية أو طبيعية أو حادثة من أي نوع كانت، يحوّلها السياسيون عبر تصاريح مباشرة أو من عبر ينوب عنهم (الإعلاميين، المؤثرين والناشطين…) إلى ما يشبه مسرحيّة متسلسلة تُعاد حلقاتها كل يوم هدفها هو تحويل المواطن من “فاعلٍ سياسي” إلى “مشاهدٍ غاضبٍ” عاجزٍ عن رؤية من يدير اللعبة خلف الكواليس.
آلة تصنيع الأزمات: هندسة الانتباه الجماعي
أصبحت إدارة الكوارث الاجتماعية في لبنان علماً دقيقاً تعتمده النخب فهي تتولّى تصدير الوهم فكلما تفاقمت أزمة كالمحروقات أو الدواء…الخ، يظهر خطاب طائفي عن “حصار ممنهج”، وتبدأ الردود والردود المضادة وتتولى وسائل الإعلام على أنواعها قسطاً من الهجوم والهجوم المضاد ومعها مختلف وسائل التواصل الاجتماعي والذباب الإلكتروني فيتحوّل انتباه الناس نحو موضوع آخر بعيد كل البعد عن أزمة الحروقات بينما تُخزن الكميات في مستودعات الزعماء أو من ينوب عنهم في الشركات ليعاد بيعها في السّوق بأضعاف مضاعفة، فيحققون الأرباح الدسمة والناس تعيش في خوف من انفجار مشكل طائفي هنا أو هناك
إعادة تدوير المآسي:
حين وقع انفجار مرفأ بيروت، لم يُعامل كجريمة موحّدة بل كجزء من “معركة أكبر” تخوضها جماعة ضد أخرى. فبدل أن تكون العدالة هي القاسم المشترك، تم تأطير الحادثة في صراعات نفوذ داخلية، حُجبت فيها المسؤوليات خلف دخان الاتهامات المتبادلة.
و الأمر ذاته ينطبق على الانهيار المالي، فالرواية السائدة تُركِّز على “استهداف فئة” أو “تصفية حساب خارجي”، وتُهمل ببساطة حقيقة أن الانهيار صُمّم محليًا، بقرارات مصرفية – سياسية داخلية واضحة.
وأزمات الكهرباء والدواء والمحروقات لا تُقدَّم كنِتاج لفشل اقتصادي شامل، بل تُصوَّر كـ”حصار مقصود” على جماعة دون غيرها، والإعلام يُعيد بث هذه السرديات. فغالبًا ما يظهر الخطاب وكأننا نعيش في بلدين لا في بلد واحد. وفي الخلفية، تُخزّن المحروقات في مستودعات تابعة لمراكز القوى السياسية، وتُوزع المساعدات بناءً على الولاء لا على الحاجة.
ولا تقتصر أدوات السيطرة على السياسيين، الإعلام نفسه بات جزءًا من منظومة “الهندسة الانتباهية”، البرامج الحوارية تتحول إلى مسرحيات استفزاز، والمعلومة تُختصر في سرديّة مُسبقة تحدّد “العدو” قبل أن تسأل “ما هي الحقيقة، والمنصات الرقمية لا تُستخدَم للنقاش بل للتعبئة، وكل أزمة تُواكَب بجيش من الحسابات، يطلق وسمًا، ويخلق عدوًا، ويحول الانهيار إلى مناسبة للولاء وكل صوتٍ نقديّ يُتّهم بالخيانة وكل فكرة بديلة تُحاصر بالشتائم المنظمة.
في ظل الانهيار، لم تعد الأصوات تُشرى فقط بالمال، بل بالدواء، والوقود، والخدمات الأساسية. الولاء بات عملة مادية، الناس لا تنتخب من تؤمن بصدقه وإخلاصه لها، بل بمن يستطيع أن يضمن لها البقاء ليوم إضافي. موجات الهجرة منذ سنة 2019 ليست هروبًا من الواقع المزري فحسب، بل هي احتجاج صامت ضد منظومة أغلقت كل أبواب التغيير، وهي (أي موجات الهجرة) استُخدمت في السرديات السياسية كأداة تخويف أو “مشروع لتغيير الديموغرافيا”، بدل أن تُقرَأ كصرخة وجودية ضد تكرار الموت نفسه.
صفقات الإعلانات السياسية
كشف تقرير “شبكة مراقبة الإنفاق الانتخابي” (2022) أن تمويل الحملات الإعلانية لبعض المرشحين تجاوز ميزانيات مستشفيات حكوميّة بكاملها، في وقت تُغلق فيه غرف الطوارئ بسبب نقص الأدوية، وتُشغّل لوحات ليد (LED) مضيئة الشوارع ليلًا نهارًا لتمجيد الزعامات السياسية.
وأظهر تقريرآخر صادر عن “المرصد اللبناني للشفافية” (2023) أن كميات ضخمة من المحروقات كانت تُخزّن عمدًا في مستودعات خاصة، لتُعاد تعبئتها وبيعها لاحقًا بأسعار خيالية، وسط شحٍّ مفتعل وخطاب من السياسيين يدّعي “استهدافهم”، فالأزمة لم تكن في النّقص، بل في التسعير (من سعر) السياسي للمعاناة.
كما وثّقت منصة “تحقّق” (2024) كيف جرى توزيع أدوية مدعومة على أساس الولاءات السياسية، حيث تحوّلت المستوصفات إلى أدوات تعبئة انتخابية، فيما يعجز مرضى السرطان عن إيجاد العلاج في السوق الرسمي للدواء، وتمّ تهريب الدّعم الحكومي إلى صناديق الاقتراع بدل معالجة الناس.
وحين حصل الزلزال الذي ضرب مناطق لبنانية عديدة في أوائل سنة 2023، رُصدت حملات إعلامية ضخمة تُظهر قيادات سياسية وهي “تُنقذ الأهالي”، بينما أظهرت تقارير إغاثية أن 70% من المناطق المتضررة لم تتلقَّ أي دعم فعلي، فالكارثة كانت مناسبة – فرصة لبثّ خطابات بطولية لا لخدمة الضحايا.
وبناء على تقرير “البنك الدولي” (2023)، فإن كبار المصرفيين والسياسيين الذين ساهموا مباشرة في الانهيار المالي عادوا ليقترحوا “خُطط إنقاذ استثمارية” عبر شركاتهم الخاصة، مستفيدين من انهيار سعر العملة لشراء أصول الدولة بثمن بخس، فالانهيار لم يكن فشلًا لهم وللسياسيين بل فرصة تجارية.
جيل منفصم: ضحايا آلة التلاعب
مظاهر الانفصام الجماعي في لبنان بين عامي 2019 -2025 واضحة للعيان، حيث يعيش المواطنون بين واقعين متوازيين: واقع إعلامي مشحون بالصراعات، وواقع معيشي يزداد قسوة عليهم، ما أدّى إلى تآكل ثقتهم في المؤسسات وتحوّل ولائهم السياسي إلى سلعة تُباع وتُشترى.
وفي انتخابات 2022، بلغت نسبة المشاركة العامّة في الانتخابات النيابيّة 41% فقط، مقارنة بـ49.2% في انتخابات 2018، مما يشير إلى تراجع الثقة العامة بالدولة كضامن للعملية الانتخابية، فضلاً عن تأثير الانهيار الاقتصادي على تحفيز المواطنين للمشاركة، رغم الدعوات الكثيفة لحثهم على الاقتراع.
وأفاد استطلاع “الباروميتر العربي” لعام 2023 بأن 72% من اللبنانيين يعتبرون الإعلام غير موثوق، مما يعكس فجوة عميقة بين المواطنين ووسائل الإعلام، ويُسهم في تعزيز حالة الانفصام الجماعي.
في حين كشفت تقارير عن تزايد ظاهرة شراء الأصوات في الانتخابات، حيث تّقدّم الخدمات الأساسية مثل الدواء والوقود مقابل الدّعم السياسي، مما يُظهر تحوّل الولاء السياسي إلى سلعة تُباع وتُشترى.
كما أظهرت الدراسات أن نسبة كبيرة من الشباب اللبناني يفكرون بالهجرة بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية، ما يُشير إلى فقدان الأمل في التغيير.
وتُستخدم الأزمات المتكررة كأدوات في الخطاب السياسي، حيث يتم تحويل الانتباه عن القضايا الأساسية إلى صراعات وهمية، ما يُسهم في تعميق حالة الانفصام الجماعي بين المواطنين.
هذه الأمثلة تُبرز كيف يُسهم “اقتصاد الانتباه” في لبنان في خلق واقعين متوازيين، حيث يُستخدم الإعلام (بأنواعه كافة) والخطاب السياسي لتوجيه الانتباه بعيدًا عن الأزمات الحقيقية،
الخلاصة:
إذا، اللعبة واضحة، مَن يتحكّم في الانتباه يتحكم في المصير وفي المردود المالي والاقتصادي. والسؤال الآن وهنا، هل تستمر الناس كوقود لهذه الآلة، أم تَشرع في مقاومة من نوع جديد ونعني بها “مقاومة الوعي”؟
وكما قال ذات مرّة “جوليان أسانج” (Julian Assange): “أكبر انتصار للطغاة هو أن يجبروك على اللعب بلعبتهم، فالتحرّر يبدأ عندما ترفض حتى قواعد لعبتهم”.



