رأي

اقتراع المغتربين في لبنان: بين الحق الدستوري ولغز التوازنات (سعيد عيسى)

 

بقلم الدكتور سعيد عيسى – الحوارنيوز

لطالما كان اللبنانيون في بلاد الانتشار شريان حياة لوطنهم الأم، حافظوا على هويته، وعززوا اقتصاده بتحويلاتهم، وعكسوا صورة حضارية عن شعبه. بيد أن مشاركتهم السياسية، وتحديدًا حقهم في الاقتراع، ظلت ولسنوات طويلة مُعضلة تراوح مكانها، تتحول مع كل استحقاق انتخابي إلى نقطة خلاف جوهرية تكشف عمق التجاذبات في بنية لبنان السياسية المعقّدة.

اليوم، ونحن على أعتاب استحقاقات قادمة، يعود الجدل حول اقتراع المغتربين ليتصدر المشهد، وهذه المرة مع مطالبة واسعة، مدعومة بعريضة نيابية، بإلغاء المقاعد الستة المخصصة لهم والسماح لهم بالاقتراع ضمن دوائرهم الانتخابية الأصلية. هذا المطلب، وإن بدا بديهيًا في أي ديمقراطية تحترم مبدأ المساواة في المواطنة، فإنه في لبنان يصبح لغزًا يكتنفه الغموض وتحرّكه مصالح وتوازنات دقيقة.

الجدل لا ينحصر في “الحق” من عدمه؛ فالدستور اللبناني يمنح كل مواطن حقه في الاقتراع. تكمن المعضلة الحقيقية في “الكيفية” التي سيُمارس بها هذا الحق. فمن جهة، يرى الداعمون لإلغاء المقاعد الستة أن تخصيص دوائر خاصة للمغتربين هو تشويه لمبدأ المساواة، وخلق لنوع من “التمييز الإيجابي” الذي لا مبرر له. إذ لماذا يكون صوت المغترب “مختلفًا” عن صوت المقيم، بينما كلاهما يحمل نفس الجنسية ويسهم في بناء الوطن بطريقته؟ هم يرون أن عودة المغتربين للتصويت في دوائرهم الأم سيعيد للعملية الانتخابية زخمها وحيويتها، وسيجعل صوتهم أكثر تأثيرًا في اختيار ممثليهم الحقيقيين. إنها دعوة للمساواة الكاملة والدمج الكامل لصوت الانتشار في النسيج الوطني.

من جهة أخرى، تتمسك بعض القوى السياسية بالمقاعد الستة، وتبرّر ذلك بضرورة ضمان تمثيل خاص للبنانيين في الخارج، وتحديدًا لأبناء بعض الطوائف التي ترى في هذه المقاعد ضمانة للحفاظ على حضورها السياسي. هذه الحجة، وإن كانت مفهومة في سياق النظام الطائفي اللبناني، إلا أنها تثير تساؤلات حول معنى “التمثيل” الحقيقي. هل يتمثل المغترب في دائرة “انتشارية” لا تجمعها رابطة جغرافية أو اجتماعية واضحة، أم في دائرته الأصلية التي ترتبط بتاريخه العائلي والاجتماعي طالما الانتخاب ليس على أساس وطني ولبنان دائرة واحدة؟

مقاربة الحلول والتحديات

إن الحل لا يكمن في تغليب طرف على آخر، بل في مقاربة جذرية تأخذ في الاعتبار جملة من العوامل أهمها:

  • مبدأ المواطنة الكاملة: يجب أن يكون الهدف الأسمى هو ضمان المواطنة الكاملة وغير المنقوصة لجميع اللبنانيين، أينما وجدوا. وهذا يعني مساواتهم في الحقوق والواجبات، بما في ذلك حق الاقتراع، دون أي تمييز.
  • تحديات البنية الطائفية: لا يمكن تجاهل البنية الطائفية في لبنان، فهي واقع قائم. أيّ حلّ مقترح يجب أن يراعي هذه الحساسيات، ولكن دون أن تصبح ذريعة لتكريس الانقسام أو حرمان فئة من حقوقها. هل يمكن إيجاد صيغة تضمن تمثيلًا عادلًا ضمن الدوائر الأصلية، مع طمأنة الأطراف التي تخشى من تأثيرات التغيير؟
  • الثقة والشفافية: بغض النظر عن الآلية المعتمدة، يجب أن تبنى عملية اقتراع المغتربين على أقصى درجات الشفافية والنزاهة. الثقة في النتائج هي أساس أي عملية ديمقراطية ناجحة، وهذا يتطلب آليات واضحة للتحقق والمراقبة.
  • الرؤية المستقبلية: هل نُريد لبنانًا يرى في أبنائه المنتشرين قوة دافعة للمستقبل، يشارك في صنع قراره السياسي بحرية ومساواة، أم نبقيهم على هامش هذه العملية، حبيسي لغز التوازنات الداخلية؟

إن الجدل الدائر حول اقتراع المغتربين ليس مجرّد خلاف حول مادة قانونية، بل هو انعكاس عميق للصراع بين لبنان الذي يطمح إليه أبناؤه، ولبنان الذي تقيده توازنات الماضي. المطلوب ليس فقط إصلاحًا قانونيًا، بل رؤية سياسية حكيمة تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وتُعلي من شأن المواطنة الحقيقية، لتصبح أصوات المغتربين صدىً حقيقيًا لطموح لبنان نحو مستقبل أفضل.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى