اعترافاتٌ بلا أثرٍ.. كيف تتهرّب أوروبا من وقف الحرب على غزّة؟ (سعيد عيسى)

بقلم الدكتور سعيد عيسى – الحوارنيوز
في لحظةٍ تبدو وكأنّها منعطفٌ تاريخيٌّ، سارعت عواصم أوروبيّة عدّة إلى الإعلان عن اعترافها بدولةٍ فلسطينيّةٍ. قُوبِلَت الخطوة بتغطيةٍ إعلاميّةٍ واسعةٍ واحتفاءٍ سياسيٍّ في الأوساط المؤيّدة لحقوق الفلسطينيين، حتى خُيِّل أنّ “حلّ الدّولتين” عاد إلى الواجهة بقوّة. لكن سرعان ما يتبيّن أنّ هذا الاعتراف ليس إلا صوتًا أجوف، محاولةً لتغطية العجز الأوروبيّ وإخفاء التهرّب من الخطوة الأهمّ: مواجهة إسرائيل بعقوباتٍ ملموسةٍ توقف المجازر الجارية في غزّة.
من حيث الشّكل، تبدو الاعترافات الأوروبيّة دعمًا معنويًّا للشّعب الفلسطينيّ، وإقرارًا بحقّه التاريخيّ في تقرير المصير. لكن على أرض الواقع، يظلّ هذا الاعتراف رمزيًّا صرفًا، لا يغيّر شيئًا من الواقع اليوميّ الذي يعيشه أهل غزّة تحت الحصار والقصف والجوع. الاعتراف لا يعيد الحياة لضحايا المجازر، ولا يفتح المعابر للمساعدات، ولا يوقف تهجير مئات الآلاف.
في المقابل، تمنح هذه الخطوة العواصم الأوروبيّة فرصةً للهروب من الضّغط الشعبيّ المتصاعد. أمام مشاهد الجوع والدّمار، تحتاج الحكومات إلى ما يُظْهِر أنّها “تفعل شيئًا”، فيأتي الاعتراف كحلّ وسطٍ، خطوةٌ مجانيٌّة تُرضي الضّمير الغربيّ وتسمح باستمرار الصمت تجاه الجرائم.
المفارقة أنّ بعض القادة الأوروبيين حاولوا تصوير الاعتراف على أنّه “عقوبةٌ مشروطةٌ” لإسرائيل، وكأنّ الاعتراف بحقّ الشّعب الفلسطينيّ يُمْنَح أو يُسْحَب وفق سلوك المعتدي. هذا الخطاب يكشف تناقضًا عميقًا، إذ كيف يُمْكِن تحويل قضيّةٍ سياديّةٍ بحجم الدّولة الفلسطينيّة إلى ورقة ضغطٍ بيد الحكومات، تُسْتَخْدَم لتبرئة نفسها من تهمة التّخاذل؟
الاعتراف إذًا لا يحمل معنى العقوبة ولا معنى المكافأة، بل معنىً واحدًا، التملّص من المسؤوليّة. فالأوروبيون يعرفون أنّهم يملكون أدوات ضغطٍ اقتصاديّةً وعسكريًّة قادرةً على وقف الحرب أو على الأقل الحدّ من وحشيّتها، لكنّهم يتجنّبون استخدامها خوفًا من ردّ فعل الولايات المتّحدة، أو من صعود اليمين القوميّ في بلدانهم.
حتى لو افترضنا حسن النّيّة، يبقى السؤال: أين هذه الدولة الفلسطينيّة التي يُعترف بها؟
الواقع السياسيّ الفلسطيني ممزّقٌ بين انقسامٍ داخليٍّ، واستيطانٍ متصاعدٍ، واحتلالٍ عسكريٍّ لا يزال يفرض شروطه يوميًا. في ظل هذه الظروف، يبدو الاعتراف بدولةٍ لا وجود لها على الأرض وهمًا سياسيًّا أكثر منه خطوة نحو الحل.
الأدهى أن الاعتراف قد يتحوّل إلى مكافأةٍ غير مباشرةٍ لإسرائيل، إذ يمنحها مهلةً إضافيّةً للمضيّ في مشروعها الاستيطانيّ، ويتيح لها أن تتجاهل أيّ ضغطٍ فعليٍّ، طالما أنّ ما يواجهها ليس سوى بياناتٍ وتصريحاتٍ لا تتبعها إجراءاتٌ عمليّةٌ. وهكذا يصبح الاعتراف بديلاً مزيّفًا للعقوبات، بدل أن يكون تمهيدًا لحلٍّ سياسيٍّ جادٍّ.
يكشف هذا السّلوك عن ازدواجيّةٍ صارخةٍ في السّياسة الأوروبيّة، العقوبات طُبِّقَت سريعًا وبصرامةٍ ضدّ روسيا بعد غزو أوكرانيا، بينما تُسْتَثْنى إسرائيل رغم اتّهامها بارتكاب جرائم حربٍ وإبادةٍ جماعيّةٍ. هذا التّناقض لا يُضْعِف فقط صدقيّة أوروبا على المسرح الدّوليّ، بل يرسّخ قناعةً بأنّ حياة الفلسطينيين أقلّ قيمةً في ميزان السّياسة الغربيّة.
إن أرادت أوروبا أن تكون خطواتها ذات أثرٍ حقيقيٍّ، فلا مفرّ من الانتقال من الرّمزيّة إلى الفعل. الاعتراف وحده لا يكفي، بل يجب أن يُتْبَع بسياساتٍ عمليّةٍ، مثل فرض حظرٍ على تصدير السّلاح لإسرائيل، تجميد اتفاقيّات الشّراكة والتّعاون العسكريّ، ملاحقة المسؤولين عن الجرائم أمام المحاكم الدّوليّة، وفرض قيودٍ اقتصاديّةٍ تعكس جدّية أوروبا في الدّفاع عن القانون الدّوليّ. من دون هذه الخطوات، سيظلّ الاعتراف مجرّد حبرٍ على ورق، لا يغيّر موازين القوى ولا يوقف نزيف الدّم.
الاعترافات الأوروبيّة بالدولة الفلسطينيّة، في توقيتها ومضمونها، تكشف أكثر مما تُخفي، إنّها مراوغةٌ سياسيّةٌ تهدف إلى تهدئة الشارع الغربيّ، لا إلى إنصاف الفلسطينيين. وبينما يواصل الناس في غزّة حياتهم تحت الحصار والقصف والجوع، تختبئ أوروبا خلف عباراتٍ دبلوماسيّةٍ أنيقةٍ، متجاهلةً أنّ التّاريخ سيحاكمها على عجزها عن مواجهة الجريمة وهي في ذروتها.
فإمّا أن تختار أوروبا الفعل السّياسيّ الشّجاع وتكسر دائرة الإفلات من العقاب، أو تبقى أسيرة الاعترافات الرّمزيّة، شاهدةً صامتةً على مجزرةٍ لا تنتهي.


