ازمة انقطاع أدوية القلب والشّرايين : المخاطر والمسؤوليات(2)
*د.طلال حمود:
كنّا قد تحدّثنا في الجزء الأوّل من هذه المقالات عن انقطاع بعض أدوية القلب المُزمنة في الأسواق اللّبنانية، ومخاطر إيقافها المفاجئ من قِبل بعض المرضى، وقد تكلّمنا عن أهمّ أنواع أمراض القلب والشّرايين، لكي يسهل على المريض فهم المخاطر الّتي قد تنتج عن إيقاف الأدوية في بعض الحالات، وعن المخاطر المُترتّبة عن إيقاف بعض أنواع هذه الأدوية بشكلٍ عام.
في هذا الجزء سنتناول تفصيليًّا كلّ نوع من هذه الأمراض والمخاطر النّاتجة عن توقّف تناول الأدوية الخاصّة بعلاج هذا المرض، لتبيان هذه المخاطر بشكلٍ واضح مع إعطاء بعض الأمثلة، وذلك طلباً للمزيد من الفائدة المرجوّة من توعية المواطنين حول هذه الحالات.
أ- مرض تصلّب الشّرايين التّاجيّة للقلب: إنّ أيّ إيقاف لمضادّات التّخثّر أو التّجلّط أو لمُخفّضات الدّهنيات أو للأدوية المُوسّعة للشّرايين، أو للأدوية التي تُساعد على تخفيض الضّغط الشّرياني- الّتي تساهم في زيادة عمليّة تغذية عضلة القلب -سيؤدّي إلى إحداث أزمة قلبية خطيرة، قد تكون بشكل تفاقُم في الأعراض، أي حصول آلام صدرية مُتكرّرة عند القيام بأيّ مجهود( خنّاق صدريّ مُستقرّ). وقد تزداد خطورتها إلى أن تصل إلى مرحلة الخنّاق الصّدريّ غير المُستقرّ، مع حصول انسداد مُؤقّت في أحد الشّرايين التّاجيّة للقلب، ما يستدعي الدّخول إلى المستشفى من أجل العلاج المُناسب في أسرع وقت ممكن.
وقد تؤدّي في بعض الحالات إلى أعراض مُتقدّمة، وأحداث أكثر خطورة مثل الذّبحة القلبيّة أو احتشاء في عضلة القلب. وهذا ما يعتبر حادثًا مؤسفًا جدًّا، لأنّ انقطاع دواء مثل الأسبيرين مثلًا، والّذي تبلغ كلفته أقلّ من دولار أو دولارين أميركيّين، قد يؤدّي إلى إصابة المريض بذبحة قلبيّة خطيرة، وإلى تعريضه لمخاطر الإصابة بقصور في عضلة القلب وبالتّالي لحالة وفاة مُفاجئة، قد تنتج عن صدمة قلبيّة، أو عن اضطرابات خطيرة في ضربات القلب. كذلك الأمر بالنّسبة للأدوية المُوسّعة للشّرايين أو الأدوية الّتي تُخفّف من سرعة ضربات القلب عند هؤلاء المرضى، لأنّ إيقاف هذه الأدوية بشكلٍ مُفاجئ يؤدّي إلى تشنّج كبير في هذه الشّرايين، وإلى حصول الأعراض الّتي ذكرناها سابقًا مع درجات خطورة مُتفاوتة.
كذلك بالنّسبة للأدوية المضادّة أو المُخفّضة للدّهنيات، والأدوية الّتي تعالج مرض السُكّري. فإنّ إيقاف مثل هذه الأدوية عند المرضى المُصابين بمرض تصلّب الشّرايين التّاجيّة للقلب قد يؤدّي إلى عوارض وحوادث قلبيّة خطيرة مُماثلة، لأنّ الأدوية المُخفّضة للدّهنيات تمنع ترسّب الدّهنيات في داخل جدار الشّرايين، وبالتالي فإنّ إيقافها سيؤدّي إلى تفاقُم حجم الكتل الدّهنية الموجودة في داخل جدار هذه الشّرايين، وبالتّالي إلى انسدادها على المدى المتوسّط والبعيد أو حتى على القصير عند بعض المرضى الشّديدي الخطورة، نتيجة تقدّم المرض عندهم والّذين تكون حالتهم حسّاسة جدًّا، وقائمة أو مُتعلّقة بحالة توازن دقيق بين حجم الكتل الدّهنية وكمية سيلان الدّم الّذي يجري في داخل الشّرايين. كذلك فإنّ إيقاف أدوية السُّكّري عند هؤلاء المرضى المُصابين بمرض تصلّب الشّرايين التّاجيّة للقلب، سيؤدّي إلى ارتفاع نسبة السُّكّر في الدّم وإلى تدهور حالتهم أيضًا، لأنّنا نعرف جميعًا أنّ مرض السُّكّريّ يُشكّل أحد الأسباب الرّئيسة للإصابة بأمراض تصلّب الشّرايين التّاجيّة للقلب وغيرها من أمراض القلب والشّرايين، خاصّة وأنّ السّكّريّ يُسمّى بالقاتل الصّامت، لأنّ معظم المرضى المُصابين به يتوفّون في حوالي ٧٠ بالمئة من الحالات، نتيجة أزمات قلبيّة حادّة وغيرها من الأحداث القلبيّة، ويؤدّي السُكّري أيضًا إلى زيادة مهولة في نسبة الجلطات الدّماغيّة، وتصلّب وانسداد شرايين الرّقبة المُتّجهة إلى الرّأس والّتي تُغذّي الدّماغ، وشرايين الأطراف التي تُغذّي السّاقين والقدمين، ولذلك فإنّ إيقاف أدوية السّكّري عند هكذا مرضى يزيد من مخاطر كلّ هذه الأمراض القلبيّة، كما يتسبّب بتدهور سريع في حالة الكتل الدّهنيّة المُترسّبة في جدار شرايين الرّقبة، أو شرايين السّاقين والبطن.
ب- المرضى الّذين يعانون من قصور في عضلة القلب: إنّ حالة قصور عضلة القلب هي حالة معروفة جدًّا، تُصيب عددًا كبيرًا من المرضى الّذين تفقد عندهم عضلة القلب قدرتها على ضخّ الكمّيّة الكافية من الدّم، والّتي تبلغ حوالي ٥ إلى ٦ ليترات في الدّقيقة، لكي تكفي احتياجات الجسم من الأوكسجين، ومن الموادّ الأخرى كالسّكّر والحوامض الدّهنيّة الّتي تحتاجها هذه الأعضاء للقيام بوظيفتها الطّبيعيّة. ونحن نعرف أنّ مرضى قصور القلب يتعالجون بعدد من الأدوية المُكلفة بشكلٍ عامّ، ومنها مضادّات بعض الأونزيمات الّتي ذكرناها سابقًا ( ACE inhibitors و Angiotensin inhibitors ) وأدوية أخرى مُكلفة جداً مثل دواء ال (Entresto)، وهو دواء جديد له فعاليّة عالية جدًّا في تخفيف نسبة الوفيّات وحالات الدّخول إلى المستشفى، بسبب علاجه حالات الاحتقان الرّئوي عند المرضى الّذين تكون قوّة ضخّ العضلة عندهم أقلّ من ٣٥ بالمئة. كذلك نستعمل عند هؤلاء المرضى في لبنان وفي مُعظم- بل كل- دول العالم بعض الأدوية القليلة الكلفة والمتوفّرة منذ زمن طويل في الأسواق، و هي مدرات البول الّتي تسمح للجسم بأن يحافظ على التّوازن بين كمّيّة الأملاح والسّوائل الموجودة في الجسم، وبين قوّة الضّخّ الّتي تقوم بها العضلة، لذلك فإنّ إيقاف أيّ نوع من هذه الأدوية، و هي خمس فصائل مختلفة دون الدّخول في تفاصيلها، سيؤدّي إلى خلل كبير في عمل عضلة القلب، و يؤدّي إلى حدوث حالات احتقان رئويّ حادّ قد تكون مميتة في بعض الأحيان، لأنّ المريض يصاب بحالة ضيق نفس شديد، مع احتقان للسّوائل في الرّئة، و في باقي أعضاء الجسم خاصّة في البطن وفي السّاقين.
ولذلك فإنّ فقدان دواء زهيد الثّمن مثل اللّازيكس (Furosemid) في الأسواق اللّبنانية يُمثّل كارثة صحّيّة كبيرة بالنّسبة لهؤلاء المرضى، خاصّة وأنّه دواء معروف منذ حوالي ٤٠ إلى ٥٠ سنة، وكلفة تصنيعه ليست عالية أبدًا. لكنّنا في لبنان، وبسبب السّياسات الصّحّيّة والاقتصاديّة الخاطئة لم نُشجّع أبدًا الصّناعات الدّوائية اللّبنانية، وعمدنا دائمًا إلى استيراد هكذا دواء، ممّا سمح للأزمة الاقتصاديّة – الماليّة الأخيرة – ليس فقط بتهديد الأمن الغذائيّ للّبنانيين، بل أيضًا بتهديد أمنهم الصّحّيّ، بسبب فقدان أدوية تُعتبر ضروريّة جدًّا لكي يستمرّوا على قيد الحياة.
ولذلك يجب على السّلطات المُختصّة، وعلى أعلى المستويات التّنبّه إلى مخاطر هذه الأزمة، و إلى تداركها في أسرع وقت، وذلك عن طريق دعم وتشجيع الصّناعات الدّوائية في لبنان، وخاصّة تشجيع صناعة "الأدوية الجُنيسية أو الجينيريك" التي لا تُكلّف كثيرًا، والّتي يُشكّل انقطاعها وبالتّالي إيقافها من قبل المرضى، كما قلنا، خطرًا كبيرًا على حياتهم.
٣- مشاكل كهرباء القلب: للأسف الشديد فإنّ أدوية القلب المُستعملة في علاج اضطرابات كهرباء القلب هي مُرتفعة الثّمن، ولا يوجد منها في أغلب الأحوال بل في معظمها "أدوية جنيسة أو جينيريك". و لذلك فإنّ انقطاعها من السّوق وإيقافها بشكل مفاجئ، يُعرّض المرضى الّذين يتناولون هكذا نوع من الأدوية إلى مخاطر كبيرة، قد تكون بشكل اضطرابات خطيرة في ضربات القلب ، تؤدّي أحيانًا إلى حالات غياب عن الوعي، أو حتّى إلى الوفاة نتيجة إمكانية حصول "تسرّع بطيني" أو "رجفان بطيني" مميت.
لذلك يجب أيضًا في هذا المجال، على السّلطات الصحيّة اللّبنانية أن تضع خطّة لمنع انقطاع هذه الأدوية أو تخزينها، أو احتكارها، ولتأمين احتياجات كلّ المرضى اللّبنانيين من هذه الأصناف من الأدوية، لأنّ إيقافها يُعرّض كلّ المرضى اللّبنانيين الّذين يعانون من أمراض كهرباء القلب إلى مخاطر صحّيّة خطيرة للغاية تؤدّي بحياتهم، وهذا ما حصل تحديداً مع دواء الكوردارون (Amidarone) وهو دواء من هذه الفصيلة من الأدوية الّتي تستعمل لعلاج اضطرابات كهرباء القلب، و هو دواء قديم جدًّا، وقليل الكلفة ولا تتعدّى كلفته أكثر من ٢ إلى ٣ دولار أميركي، ولكنّه انقطع مُؤخّرًا في لبنان بسبب جشع بعض الشّركات الّتي تستورد هكذا أدوية قليلة الكلفة، لأنّ عملية الاستيراد لا تعود عليهم بأرباح طائلة، أو لأنّ السّلطات الصّحّيّة اللّبنانية لم تأخذ الإجراءات اللّازمة للوصول لحالة اكتفاء ذاتيّ كامل من كلّ الأصناف الأساسيّة من الأدوية الّتي لا يمكن أبدًا الاستغناء عنها، خاصّة إذا لم يكن هناك من بديل لها في الأسواق الوطنيّة أو حتّى العالميّة.
من هنا نؤكّد على أهمّية أن تضع السّلطات الصّحّيّة، وكلّ الجهات المعنيّة والمختصّة قوانين صارمة لمنع انقطاع هكذا أدوية، أو للضّغط على المصانع الوطنيّة لتصنيعها في لبنان، خاصّة وأنّ براءة الاختراع لهذا النّوع من الأدوية القديمة انتهت منذ مُدّة طويلة، وأصبح من السّهل جدًّا تصنيع أدوية "جُنيسيّة أو جينيريك" منها بكلفة ضئيلة جدًّا.
* طبيب قلب وشرايين- منسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود