ازمة الحكم في لبنان بين الصيغة والدولة(العلامة علي الخطيب)
بقلم العلامة الشيخ علي الخطيب* – الحوار نيوز
وصلت الازمة في لبنان إلى أخطر مراحلها التي يحمّل البعض المقاومة مسؤوليتها في موقف اقل ما يقال فيه انه غير منصف وقلب للحقائق ،والأمر معكوس تماما لأن تشكل المقاومة يعتبرأحد تجليات ازمة الحكم في لبنان.
لقد تم التوافق بين اطراف لبنان، وليس كل الأطراف، على الصيغة الحاضرة التي تم ( فرضها ) كأمر واقع على من كان خارجها ،وهي تتلخص في صيغة تعايش بين مختلفين، وليس على بناء دولة لمواطنين. فهم افترضوا في الأساس ان هناك شعوبا متعددة وليس شعبا واحدا، وهو اول الأخطاء التي ارتكبت في التوجه نحو بناء صيغة للتعايش، وليس بناء دولة، والذي يفترض في حد ذاته عدم إمكانية بناء دولة لشعب واحد متنوع دينيا ومتعدد طائفيا .وهذا التوجه ليس منشأه التعدد والتنوع الطائفي والديني ليتم تحميلهما سلبيات هذا التوجه .
فمن وجهة نظرنا ان الاديان والطوائف لا تمنع اطلاقا إقامة دولة واحدة تقوم بوظيفتها في خدمة أبنائها وحمايتهم وحماية سيادتها ،ايا كانت انتماءاتهم الدينية والطائفية .وبهذا التوجه إلى الصيغة ،بدل الدولة، وضعت علة الخراب والاحتراب في اساس البناء .وقد أكدت الوقائع ذلك وأسهمت في عدم التوافق على ابسط البديهيات الوطنية ،واختلاف اللبنانيين بين قوسين على كل شيء، فلا تجد مفهوما واحدا لمعنى الوطنية والسيادة والخيانة والمقاومة وغيرها من المفاهيم التي يفترض الانتماء لدولة واحدة ذات سيادة على أرضها وشعبها ان تكون مسلمات لا خلاف عليها وهي تعبر بشكل واضح على ان العلة في الصيغة.
على ان الادعاء بأن الصيغة هي التي تحمي التنوع الديني والطوائف، وان الدولة تشكل خطرا على المكونات، ادعاء فارغ لا يقوم على اساس منطقي، فإقامة الدولة على اساس المواطنة تحفظ التعدد والتنوع وتتيح للمواطنين حرية الاعتقاد وتحمي حقوقهم في ممارسة الشعائر الدينية الخاصة لاتباع المكونات، ولا تتنافى معها، بل تمنع من جعل المكونات مجموعات قبلية تتقاتل على السلطة والحكم والنفوذ، أو على تقسيم السلطة إلى سلطات متعددة متناحرة، أوتفرُّد احداها بالسلطة الذي يدفع بالآخرين إلى منازعتها كما حصل ويحصل فعلا مع كل الترقيعات التي لم تفلح في إيجاد الاستقرار المنشود وتحقيق ألامال التي يبتغيها المواطن، كما هو شأن كل مواطن في اي وطن، وادعاء ان شعب لبنان لا يشبه اي شعب آخر بتعدديته وتنوعه ،ولذلك كانت الصيغة اللبنانية ابتكارا فريدا في الكون، ونموذجا يجب تعميمه على المجتمعات التي تشبهه أمرا خطيرا، وفي نفس الوقت متهافت وغير صحيح لأن التعددية والتنوع ليس حالة لبنانية خاصة وهناك أمثلة عديدة في العالم لم يمنعها التنوع والتعدد من إقامة دولة واحدة ،واذا أقيمت على اساس فدرالي فليس على اساس فيدرالية طوائف. فلبنان ليس مهيئا لاقامة فيدراليات غير طائفية، كما ان هذا ليس مطروحا ولا مبررا لا من الناحية الجغرافية ولا السياسية ولا الاقتصادية أوالديموغرافية، كما أن الفيدرالية الطائفية غير مبررة من الناحية الأخلاقية والانسانية ، فهو طرح عنصري رجعي متخلف، وأن الداعي له فقط، نفس التبرير الذي يقدمه النموذج الاسرائيلي لتعميمه على المنطقة العربية ،ويكون تقسيم لبنان النتيجة الحتمية له لتكوين مجموعة احلاف على راسها العدو الإسرائيلي، ولتعميم هذا النموذج على المنطقة العربية الاسلامية .وقد سبق التمهيد الاعلامي والثقافي لهذا المشروع بانشاء مجموعات حزبية تتبنى نشرهذه الثقافة وتعمل على تبنيها من طوائف معينة بافتعال اشكالات طائفية لتعميم الخوف لدى ابنائها ،وان هناك تغايرا ثقافيا يحتم عدم امكان التعايش الواحد ،ولا يقف الامر عند هذا الحد حتى أتت الدعوة لتعميم المشكلة في كل مجتمع مماثل ليتآكل من داخله كما نتآكل من داخلنا ،على اننا من ناحية دينية لا نرى مانعا من إقامة دولة متعددة الاديان والطوائف تؤصل له وثيقة المدينة، وهو ما نفهمه من قوله تعالى ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا )،وعلى العكس فإن اتساع الفكر الديني لتأسيس دولة متنوعة دينيا وطائفيا تعبير ديني حضاري. فالدين الذي يدعو إلى الانعزال ويخوف اتباعه من العيش مع الآخر ليس دينا ،وإنما تعبير عنصري انغلاقي رجعي يتغطى بالدين ،كما هو تعبير عن فقدان الثقة بالنفس، وبالتالي فإن المشكلة ليست دينية ،وإنما الحفاظ على مصالح البعض استدعت منهم الاستنجاد بالطائفة والدين، وهؤلاء المستفيدون من الصيغة لن يسمحوا بأن تقام الدولة بسهولة وسيقاومونها بكل الوسائل ،الا ان ذلك لا يجوز أن يعطل الجهد السلمي للوصول إلى إقامة دولة المواطنة للخروج نهائيا من الحروب الدينية والطائفية إلى رحاب الوطن، وليكن حينئذٍ الصراع سياسيا على برامج سياسية اقتصادية اجتماعية وليس على الحصص والمغانم للطوائف التي يضيع معها كل بديهيات المرتكزات الوطنية، وتصبح دائما موضع اشكالية تنتج الحروب بين المنتفعين من الصيغة، وتكون الضحية فيها
الدولة والطوائف والناس أجمعين.
ان تلبيس الصيغة لبوس الدولة والوطن نفاق سياسي وعملية لا أخلاقية وغير انسانية ومحرقة متجددة. الحل الدائم ببناء دولة المواطنة والخروج من صيغة النفاق، صيغة التعايش والحروب المتجددة باسم الحفاظ على التنوع والتعدد.
ولهذا فإنني ادعو إلى مواجهة هذا الفكر العنصري التآمري الذي يشكل خطرا على العالمين العربي والإسلامي، وهي دعوة لتفكيك دوله على اساس طائفي ما يتماهى على الاقل مع المشروع العنصري الاسرائيلي الغربي. وادعو اخواننا من مواطني الدول العربية والاسلامية إلى التمسك بوحدتهم الوطنية وعدم الانجرار وراء الدعوات الخداعة بحجة الحصول على حقوقهم المذهبية ،بل انهم مدعوون للاندماج داخل مجتمعاتهم الوطنية والحفاظ عليها كما فعلوا دائما. كما ادعو الانظمة وخصوصا العربية منها إلى التعامل مع أبناء جلدتهم كمواطنين لا كجاليات غريبة في اوطانهم، كما يحدث لدى بعضهم واتهامهم في وطنيتهم ومحاكمتهم كعملاء .
وهنا انوه بالتعاطي العاقل والحكيم لبعض الدول الخليجية الشقيقة مع مواطنيهم دون تفرقة سواء في تطبيق القانون او في الحقوق والواجبات. واذا كان للبنان بعض الخصوصيات التي يفرضها الواقع ،فإن تطبيق الاصلاحات التي نص عليها اتفاق الطائف، يعتبر المعبر الواقعي إلى بناء دولة المواطنة الذي يبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية، إن اريد للبنان الديمومة والبقاء. اما التمترس وراء شعارات السلاح وغيرها من الشعارات الفارغة، فأنتم تأخذون لبنان إلى الهاوية. فبناء الدولة كفيل برفع الحاجة إلى المقاومة، اما التمسك بالصيغة وعدم تطبيق الإصلاحات التي نص عليها اتفاق الطائف فيعني الاصرار على ابقاء الدويلات الطائفية التي تتهمون المقاومة بها، والاصرار على مشروع الفدرلة مقدمة للتقسيم لتشكيل اسرائيليات جديدة ،وهو السر خلف الدعوة لنزع سلاح المقاومة الذي لن يكتب له النجاح، لانه ضمانة وحدة لبنان كوطن نهائي لجميع بنيه، وليس مشروع هيمنة كشعار يتغطى خلفه التقسيميون.
*نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى