ابن خلدون … والعراق(محمد قجة)
محمد قجّة – الحوارنيوز- خاص
يروي ابن خلدون في المجلد الخامس من تاريخه ” كتاب العبر ” الصفحة 542 وما بعدها ، أحداثاً جرت في بغداد والعراق عشية اجتياح هولاكو السفّاح عام 656 للهجرة ، 1258 للميلاد، وما أعقب ذلك الاجتياح من تدمير يفوق الخيال البشري .
ويمكننا عرض آراء ابن خلدون في محورين أساسين :
1ـ يروي ابن خلدون مصير بعض أبناء العراق ممن تعاونوا مع المحتل ” هولاكو ” . ويأتينا ببعض الأمثلة من أطياف شتى في العراق ، بغض النظر عن أنتماءاتهم الطائفية أو جذورهم العرقية .
ويبدأ بالحديث عن ” ابن العلقمي ” وزير الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين في بغداد . فقد راسل ابن العلقمي هولاكو واستأمنه ، ووعده بالتعاون معه حين دخول بغداد . وقد خرج لاستقبال هولاكو في موكب من الأعيان . ويشرح ابن خلدون كيف أن هولاكو استولى على قصور الخلافة وذخائرها وسط “بغداد الخضراء ” . وألقيت كتب العلم في نهر دجلة . وقتل في بغداد ألف ألف وثلاثمائة ألف من السكان .
أما ابن العلقمي فقد استبقاه هولاكو في الوزارة ولكن كما يقول ابن خلدون حرفياً : ” استبقي ابن العلقمي على الوزراة ، والرتبة ساقطة عندهم ، فلم يكن قصارى أمره إلا الكلام في الدخل والخرج ، متصرفاً من تحت آخر أقرب إلى هولاكو منه . فبقي على ذلك مدة ثم اضطرب وقتله هولاكو “
ولم يكن قتل ابن العلقمي غريباً فالمحتل يتخلص من أعوانه العملاء بمجرد انتهاء مهمتهم وحاجته إليهم.
ويروي ابن خلدون كيف أن ” بدر الدين لؤلؤ ” صاحب الموصل أرسل الهدايا مع أبنائه إلى هولاكو وتذلّل له . كما يروي كيف أن هولاكو حاصر مدينة ” أربيل ” وكان عليها ” ابن الصلايا ” فالتحق بهولاكو ونزل عن اربيل . ولكن هولاكو قتله لأنه أصبح عبئاً عليه .
وقد نصح هولاكو بعضُ مستشاريه بأن لا يسرف في قتل العملاء الذين يهرعون إليه ، فضحك منهم قائلاً : لو كان فيهم خير وإخلاص لبقوا على ولائهم لبلدهم وسلطانهم . ولكن الذين يخون بلده وسلطانه ، يمكن أن يخون الآخرين .
وهكذا تساقط بين يدي هولاكو كل من حاول أن يتعاون معه ، سواء أكان هذا المتعاون قادماً من الموصل أم بغداد أم من أربيل … فالجلاد هولاكو لا فرق لديه بين هؤلاء جميعاً إلا بمقدار ما يبذلون له من الطاعة والخنوع والاستسلام .
2ـ يتحدث ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن نشوء الدول ، وعن العصبية القبلية وذوبانها في مجتمع المدينة أو بقائها حيّة متجددة .
ويرى ابن خلدون أن دورات السلطة القبلية يبدأ نشاطها بالعصبيات الصغرى التي لا تلبث أن تنصهر في عصبية كبرى هي الدولة بأنظمتها وتشريعها وأحوالها الاجتماعية الناضجة . سواء استندت تلك الأنظمة والتشريعات إلى أسس دينية أو سياسية أو اجتماعية وحينما تضعف الدولة ويتم اختراق القوانين ، تعود العصبيات الصغرى لتطل برأسها وتمزق المجتمع من جديد .
حينما كتب ابن خلدون ذلك قبل ستة قرون ، كان يصف أحوال المجتمعات في عصره . ويستعرض صور التاريخ الماضي منذ بدئه ، ولا ندري إذا كان ابن خلدون يدرك أنه يرسم صورة المستقبل لأجيال وقرون قادمة .
واليوم بعد قرن من حكم الدولة المدنية المركزية في العراق تأتي قوى خارجية ، بصورة هولاكو جديد من وراء المحيطات ، عاونتها وتعاونها قوى محلية عربية وإقليمية ، لكي تعيد نبش الشذرات العصبية والطائفية وترسم الجغرافية السياسية على أساسها، وذلك في محاولة لاعادة رسم خرائط المنطقة بعد قرن من اتفاقية ” سايكس – بيكو” سيئة السمعة . ولم يكن الهدف إسقاط نظام أو تغيير حكومة ، بل كان الهدف تدمير العراق : دولة ومجتمعا وتاريخا ، ألم يقل ” رامسفيلد ” وزير الحرب الأمريكي وقتها : سنعيد العراق إلى العصر الحجري .
قد لا يكون تفسير ابن خلدون دقيقاً ومحكماً . فهو يتحدث عن عوامل الانحلال الداخلي ، من غير أن يقدر حجم الهول الآتي من الخارج . ولم يكن يتصور أن قوى أعتى وأقسى من هولاكو سوف تظهر على الساحة الإنسانية . قوى تستعين بكل الوسائل لإعادة رسم الخرائط ، ومنها خارطة العراق في نطاق اقليمي يشكل رسم العراق ” بروفة ” له سوف تعمم إذا كتب لها النجاح .
عادت التفسيرات العشائرية بمفاهيمها المتخلفة ، والتفسيرات الاثنية العرقية أو الطائفية الضيقة التي تكرس الانقسام .
ولكن هذه التفسيرات لا تتوافق تماماً مع رؤية ابن خلدون في أعمار الدول ، فالدول التي نشأت في المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الاولى لم تبلغ شيخوختها المفترضة حسب النظرية الخلدونية ، ولكنها خضعت لعملية جراحية قيصرية قامت بها قوى خارجية ، مهدت الطريق لتلك العملية الجراحية من خلال أطباء تخدير محليين .
ولكن السحر ليس كفيلاً دائماً بتحقيق النتائج المرجوة . وكثيراً ما كان السحر ينقلب على الساحر ، وكثيراً ما أدت العمليات الجراحية القيصرية إلى نتائج معاكسة لما توقعه من أجروها .
وهاهو العراق العربي العظيم بكل اطيافه يؤكد انتماءه الحضاري العربي ، وأنه سليل بغداد الحضارة عاصمة الكون لعدة قرون . والأحداث تثبت أن هذا الشارع أكثر وعياً مما يتصور السحرة والدجّالون .
ابن خلدون اليوم في العراق ، يستعيد لنا شخصيات ابن العلقمي ولؤلؤ وابن الصلايا ، وكأنه يرى من خلف القرون الدمى الشكلية وهي تتحرك بأصابع ساحر يحتل قلب بغداد ، سواء أكان المحتل هولاكو المغولي قادما من الشرق ، أو محتلا قادما من شاطئ المحيط البعيد غربا .
رحمك الله أيها المؤرخ الفيلسوف عبد الرحمن بن خلدون ، وما زلنا نقرأ التاريخ برؤيتك العلمية الموضوعية الناضجة.
*باحث ومؤرخ – سورية