واصف عواضة – خاص الحوار نيوز
بعد ظهر الخميس في الخامس عشر من شهر تموز من العام 2021 ،حصل ما كان متوقعا أن يحصل منذ أشهر.بل الأصح أنه حصل ما كان يجب أن يحصل قبل أشهر.أكثر من ذلك.. إعتذر الرئيس المكلف تشكيل الحكومة اللبنانية “الكونية “سعد الحريري متأخرا أشهرا عدة عما كان يجب أن يكون، ما أدى إلى انهيار البلد وسقوطه في الهاوية التي لا يعلم ،حتى الراسخون في العلم، متى وكيف ستكون القيامة.
بعد ظهر يوم الخميس في 22 تشرين الأول عام 2020 كلف رئيس الجمهورية ميشال عون الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة الجديدة بناء على استشارات نيابية ملزمة.وبعد ظهر يوم الخميس في 15 تموز 2021 إعتذر سعد الحريري.يبدو أن يوم الخميس لا يناسب ساكن بيت الوسط.المهم أنه بين الخميسين لم تتغير المعادلة:لا سعد الحريري قادر على تشكيل حكومة لأسباب خارجية معطوفة على أسباب داخلية،ولا الرئيس ميشال عون راغب باستكمال عهده مع سعد الحريري.
من الأساس توسّل سعد الحريري البَرَكة السعودية لإطلاق حكومته الكونية،وراهن على أن هذه البَرَكة ،ستفتح خزائن الخليج والعالم أمام لبنان،بما يؤهله رئيسا من رتبة “منقذ” على أبواب انتخابات نيابية في الربيع المقبل.جال وصال على أصدقاء المملكة شرقا وغربا وجنوبا وشمالا.لكن أبواب ولي العهد السعودي ظلت مقفلة ،لدرجة لم يمُنّ عليه بزيارة للمملكة التي “لحم أكتافه من خيراتها ” على حد قوله،حتى أنه لم يسمح للسفير السعودي في بيروت بلقاء معه.ومع ذلك قال الحريري في حديثه المتلفز أمس أن الكورونا منعته من زيارة وطنه الثاني “مملكة الخير”.لم تعد حكايته مع السعودية من باب التحليل والتنظير.كل اللبنانيين والعرب والعالم يعرفون ذلك ،وليس ما سلف إدانة للرجل.وفي ظل هذا الواقع لم يعد سعد الحريري متحمسا لتنكُّب هذه المهمة برجل عرجاء حتى لو وضعت فرنسا وروسيا ومصر والإمارات ثقلها في هذا الطريق الوعر.إشارة الى أن الولايات المتحدة لم تحرك ساكنا في هذا المضمار ،وهي من باب النفاق السياسي أعربت عن خيبة أملها حيال اعتذار الرجل.
في المقابل كان واضحا أن الرئيس ميشال عون خلع سعد الحريري من جبّته، ولا يريد أن يكمل ما تبقى من عهده مع هذا الرجل. أساسا لم يكن سعد الحريري في اختيارات ميشال عون ،بل حضر في هذا الموقع رغما عنه من باب المجلس النيابي،فلا كيمياء تجمع الرجلين ولا التيارين المنضويين تحت لوائهما ،والشواهد على ذلك كثيرة.حرام تحميل جبران باسيل وحده هذا الحمل الثقيل.فمن يعرف عناد ميشال عون في مسيرته الطويلة “يصلّي ويسلّم” على جبران باسيل.
تلك هي المعادلة التي صمدت نحو تسعة أشهر،فانهار معها لبنان بين خميسين :خميس التكليف وخميس الاعتذار.
كل ما تقدم هو من باب التذكير والمذاكرة.همُّ الناس اليوم ليس في ما حصل ،بل في ما سيحصل،وإن كان الواقع المزري الذي يعيشه البلد بلغ حدودا لا رجعة فيها الى حالة الترف والبحبوحة التي عاشها اللبنانيون عقودا من الزمن.
يحار المرء من أين يبدأ في استطلاع الغد ،وإن كان أحد لا يستطيع الإجابة بدقة عن هذا السؤال المرير.
في السياسة يفترض أن يبدأ الحديث عن الاستشارات الملزمة دستوريا لاختيار رئيس مكلف جديد للحكومة.البديل ليس سهلا.صحيح أن الطائفة السنية الكريمة لا تخلو من الرجال الرجال ،أو النساء النساء ،لهذا الموقع الكبير،لكن الإشارات الأولى لا توحي بسهولة الخيار والاختيار ،مع إعلان النخبة السياسية التقليدية في الطائفة أنها لن تشارك في اختيار البديل.وعليه سوف يسمع اللبنانيون كثيرا بالحديث الذي بات مبتذلا عن “الميثاقية”. وصحيح أن رئيس الجمهورية وعد بالدعوة الى الاستشارات في أسرع وقت ،فماذا لو قاطع العديد من الكتل النيابية هذه الاستشارات؟وهل في جعبة الكتل الأخرى رئيس جاهز لهذا الموقع؟ وبالتالي من هي الشخصية الانتحارية التي ستتنكب لهذه المهمة في ظل الأوضاع “النووية” التي يعيشها لبنان؟..في ما مضى “ما عرضت رئاسة الحكومة على عاقل وأبى”.أما اليوم فما من عاقل يتصدى لهذا الموقع.
في الاقتصاد ،لم تعد كلمة “الانهيار” كافية للتعبير عن واقع الحال.الدولار بلا سقف والليرة الى مزيد من الانهيار،والأسعار الى مزيد من الارتفاع.لا كهرباء ولا محروقات ولا دواء ولا…الى آخر المنظومة، في متناول اللبنانيين،وطوابير الذل والإذلال خير تعبير عن هذا الواقع.الغليان لدى الناس بلغ أشده،وأغلب الظن أنه سيستمر ،إما نحو الانفجار الكبير والارتطام ،أو نحو الفوضى،ولن تتمكن القوى الأمنية والعسكرية من لجم الموقف ،لأنها ستكون في صلب “المعذبين في الأرض”.
في الحالة المعيشية ،كل الأزمات باتت مستعصية على الحلول التقليدية.لقد تجاوزت هذه الأزمات مرحلة الحلول في ظل طبقة سياسية عاجزة عن التفاهم على أدنى المقتضيات.أقصى ما يمكن أن تقوم به حكومة اذا ما شكلت بيُسر،أن تفرمل الانهيار الى فترة محدودة.المطلوب معجزة تفوق خيال المراهنين على الإنقاذ.لكن المجتمع العربي والدولي تخطى مرحلة المعجزات بالنسبة للبنان.كلٌّ همُّه في أزماته ومشاكله .وواهم من يعتقد أن الأمور مرهونة بحزب أو مقاومة أو موقف سياسي.
في أوهام التغيير والتغييريين،نعتقد أن الفترة الماضية كافية لتكوين قناعة بأن التغيير في بلد تحكمه الطوائف ويتحكم فيه نظام سياسي متخلف الى أقصى الحدود،هو ضرب من الخيال.والمراهنون على الانتخابات سوف يصدمهم الرهان في ظل قانون انتخابي يوزع الحصص على الطوائف.جُلّ ما في الأمر سوف يتحسن رصيد كتلة من هنا ،ويتراجع رصيد كتلة من هناك ،وتقتحم البرلمان (ربما) كتلة من هنالك باسم التغيير ،”لا حول لها ولا طول” في إحداث نقلة نوعية في البلد.بعض الطامحين والمتهالكين للمواقع “أخذتهم العزة بالإثم” فباتوا ينظرون يمنة ويسرة وكأن الانقلاب قاب قوسين أو أدنى.لا شك أن فئة منهم صادقة ونظيفة ،لكن أوهامها تفوق الخيال.
أمام هذه الصورة السوداوية ،ثمة من يعتقد أن الإنقاذ ما يزال ممكنا ،ولو بنفس طويل.لكن ذلك يتطلب إدارة سليمة نظيفة للبلد.لم تعد التسويات التقليدية ناجعة.حتى الآن لسنا بلدا مفلسا ولا دولة فاشلة كما يروج البعض.لدينا من الأصول المالية الداخلية والخارجية ما يكفي لنبدأ مسيرة الألف ميل بخطوة.وهذا يتطلب تغييرا في الوجوه والمفاهيم والرؤية الاقتصادية.لبنان الماضي انتهى الى غير رجعة،والناس بدأت تعتاد على أنماط معيشية جديدة ،ولا يغرن أحدا بعض المشاهد في الأسواق الناجمة عن زحمة المغتربين والزوار العرب والأجانب الى البلد.هي مرحلة موسمية مؤقتة لا يمكن الرهان عليها لإنعاش اقتصادي واجتماعي.فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
في الخلاصة ،يأسف المرء وهو يحاول استقراء الغد.ف”لا خيل عندك تهديها ولا مال” على حد قول أبي الطيب المتنبي ،لدرجة أن النطق لم يعد يسعد الحال ولا يسعف القلوب.اللهم إنّا لا نسألك رد القدر ،بل نسألك اللطف فيه.
زر الذهاب إلى الأعلى