سياسةشرق أوسط

إنطباعات من إيران بعد الحرب: هدوء وحياة طبيعية وثقة عالية بالنفس ..إستعدادات للغد ووعود بمفاجآت (واصف عواضة)

 

كتب واصف عواضة من طهران – خاص الحوارنيوز

 

إنها زيارتي السابعة والعشرين إلى إيران في عهد الجمهورية الإسلامية، كصحافي وإعلامي على مدى نحو نصف قرن من الزمن. رافقت مسؤولين لبنانيين كبارا وشخصيات روحية وتلقيت دعوات عدة للمشاركة في مؤتمرات ومناسبات مختلفة،وقد تيسّر لي أن ألتقي كبار القادة ،من الإمام الخميني الراحل ،إلى القائد الحالي آية الله السيد علي الخامنئي،ومعظم رؤساء الجمهورية ووزراء الخارجية والشخصيات الفاعلة .

عايشت عبر سنوات طويلة منذ نجاح الثورة الإسلامية في شباط من العام 1979 حيث كانت الزيارة الأولى،عايشت معظم مراحل الانتقال والأزمات التي مرت بها البلاد،وتوفرت لي ظروف شهدت فيها تطور المدن الإيرانية الكبرى ، لا سيما طهران وقم وأصفهان ومشهد.

وعلى الرغم من فداحة وقساوة الحرب الإيرانية العراقية التي استمرات لسنوات ونتائجها الكارثية ،إلا أنني أشعر بأن الحرب الأخيرة التي لم تستمر أكثر من إثني عشر يوما ،والتي شاركت فيها الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل،كانت الأكثر تأثيرا في الكيان الإيراني ،حيث يخيّل إلي أن ثمة شيئًا قد تغيّر في العمق، وأن إيران ما بعد هذه الحرب ليست كما قبلها.

تبدو طهران، بعد انتهاء الحرب الأخيرة، مدينة هادئة وطبيعية، يسودها شعور بالرضا النسبي، وكأنها استعادت إيقاعها اليومي المألوف. في شوارعها الفسيحة ومداها الواسع بين شمال وجنوب وغرب وشرق ،تدور كالعادة ملايين المركبات ،ومعظمها من صناعة إيرانية، وتعكس زحمة سير في العديد من الشوارع والساحات.(يقدر عدد السيارات في طهران بسبعة ملايين،يتحرك نصفهم في العاصمة يوميا).

غير أن هذا الهدوء لا يعكس بالضرورة غياب حسابات المستقبل. فخطاب القادة الإيرانيين هذه المرة لا يوصف بالاستعراضي أو الشعاراتي، بل يحمل تهديدات جدية ومرضية للإيرانيين، تحولت في الحرب إلى فعل على الأرض، لا مجرد كلام، وذلك نتيجة الرد الصاروخي الإيراني غير المسبوق على الدولة العبرية.

صدمة البداية والخسائر الفادحة

زائر الجمهورية الإسلامية هذه الأيام يسمع الكثير، ومن مصادر متعددة ،عن أيام الحرب وما بعدها،ما يوفر للسائل خزينة مرضية عن آفاق المرحلة المقبلة.

المصادر المطلعة التي عايشت الأحداث تروي الصورة على النحو الآتي:

في الأيام الأولى للحرب عاش الإيرانيون صدمة قاسية. سقط ما يقارب 20 قياديًا من الصف الأول، وعشرون آخرون من صف الضباط، إضافة إلى نحو ألف مدني. الصدمة الأكبر لم تكن في حجم الخسائر فقط، بل في طبيعتها، إذ إن معظم القيادات سقطوا جراء اختراقات داخلية أكثر مما كانوا ضحية القصف الإسرائيلي المباشر. الحديث الرسمي وغير الرسمي يدور حول اعتقال ما بين 700 إلى  800 شخص، ما يعكس حجم الخرق الأمني الذي واجهته إيران.

لم يكن التركيز على القائد الأعلى السيد علي خامنئي نابعًا من مجرد الحرص على حياته فقط، بل من إدراك أن استهدافه يعني ضرب رمزية الدولة والنظام معاً. كان بقاؤه على رأس القيادة بمثابة رسالة بأن هيكل النظام ما يزال متماسكًا رغم الضربات.

بحلول اليوم الخامس من الحرب، استعادت إيران وعيها الجمعي. الخطر الوجودي أيقظ البلاد، فانطلقت حالة تكاتف داخلي واسعة، طمست الفوارق التقليدية بين المحافظين والإصلاحيين والمعارضين. في لحظة الخطر لم يعد أحد يميز بين هذه التصنيفات، إذ انصهر الجميع في جبهة واحدة. فالبلاد في خطر والكل معني بدفع هذا الخطر،متجاوزا الإنقسامات الداخلية التقليدية والمزمنة.(في هذه الأجواء تتذكر أنت اللبناني بأسف كيف تتصاعد الإنقسامات في لبنان مع كل خطر وجودي).

المفكر الإيراني – الأميركي المعارض حامد دباشي كان حاضرًا من الخارج في النقاشات الفكرية، معتبرًا “أن ما جرى يمثل اختبارًا لهوية إيران وكيانها أكثر مما هو معركة عسكرية”. بالنسبة إليه، “إيران أثبتت أنها ليست دولة عابرة في التاريخ، بل أمة قائمة على جذور حضارية متينة”.

المفكر الإيراني حامد دباشي

خلال الحرب وبعدها كتب دباشي أكثر من مقالة ،وخلص إلى القول:
“لقد كان أحد الإنجازات الرئيسية التي حققتها إسرائيل في حربها على إيران، هو تدمير أي مظهر من مظاهر الشرعية التي ربما كانت تتمتع بها جماعات المعارضة المغتربة في الماضي إلى الأبد ، وهو عكس ما كانت الدولة الحامية تأمل في تحقيقه، بكل تخيلاتها البراقة والوهمية.  لقد خدعت إسرائيل وطابورها الخامس داخل الولايات المتحدة أنفسهم بالاعتقاد بأن هجمات يونيو/حزيران سوف تؤدي إلى ثورة واسعة النطاق وتطيح بالنخبة الحاكمة في إيران، وتقسم البلاد على أسس عرقية وتفكك الأمة. لقد أخطأوا تمامًا. لقد حقق العدوان عكس ذلك تمامًا: وحّد جميع الإيرانيين في هدف الدفاع عن وطنهم. ” 

وأضاف: “في الواقع، قضت الحرب الإسرائيلية الأميركية على إيران تمامًا على ما يُسمى بمعارضة المغتربين، وخاصةً أولئك الملكيين السافرين الذين انحازوا بنشاط إلى إسرائيل والولايات المتحدة ضد وطنهم. لقد فقد هؤلاء الجبناء الفاسدون أي ذرة من الشرعية إلى الأبد، وهم يذوبون في العار”.(ورد هذا الكلام في مقالة مطولة نشرها حامد دباشي في موقع “ميدل إيست آي” البريطاني باللغة الإنكليزية  في الأسبوع الأول من أيلول الجاري، ويمكن الإطلاع على المقالة باللغة العربية في موقع الحوارنيوز) .

الحرب الإسرائيلية الأميركية على إيران قضت تمامًا على ما يُسمى ب”معارضة المغتربين”(حامد دباشي)

 

 

التحوّل في الأيام الأخيرة

في الأيام الأخيرة للحرب، شهدت الجبهة تحوّلًا لافتًا. الدفاعات الجوية الإيرانية سجلت نجاحات في التصدي، والطيران الإيراني دخل المعركة بقوة. فقد أُعلن صراحة في طهران أن طائرات إيرانية من طراز أف 14 وميغ 29 تصدت للطائرات الإسرائيلية في سماء إيران . ولأن الفارق التقني واسع جدا مع طائرات أف 35 الإسرائيلية ،فقد ناور الطيارون الإيرانيون لكي تفرغ الطائرات الإسرائيلية من الوقود وتضطر للإنسحاب من الأجواء الإيرانية.

في الأيام الأخيرة من الحرب استخدم الإيرانيون صواريخ بالغة الدقة وقصفوا المدن الإسرائيلية وأحدثوا أضرارا وخسائر فادحة شاهدها العالم عبر الشاشات. وعلى الرغم من الخسائر الفادحة التي كانت تحدثها الغارات والصواريخ الإسرائيلية في الجمهورية الإسلامية،  فقد كاد الإيرانيون يستعيدون عامل توازن الردع مع إسرائيل،وهو ما طرح بعد الحرب لدى الإيرانيين سؤالا يبدو لهم مشروعا: لماذا قبلتم بوقف الحرب؟ “.     

الدمار في اسرائيل نتيجة الصواريخ الإيرانية

السؤال الذي يطرحه الإيرانيون اليوم: لماذا أوقفنا الحرب؟ هل كان التوقيت صحيحًا؟ ثمة من يرى أن الإنجازات العسكرية والسياسية تحققت، فيما يرى آخرون أن الاستمرار كان سيكشف عن مزيد من القدرات غير المستخدمة.

 هنا يستعيد الإيرانيون وعيهم ويتحدثون بفخر :

” نحن لسنا دولة هامشية مارقة كما يصورنا الغرب. نحن أمة في قارة من الأرض مساحتها 1.8 مليون كيلومتر مربع وليس 1.6 مليون كلم مربع ،كما يرد في منصات البحث العالمية وغيرها.(قال لي محدثي الإيراني ضاحكا، إن مسحا دقيقا جرى للإراضي الإيرانية فتبين أن هامش الفارق بين ما هو معلن وما هو واقع يبلغ أكثر من 200 ألف كلم مربع ،بما يساوي مساحة لبنان بنحو عشرين مرة !)

“تمتلك إيران مقدرات وإمكانات وثروات وخبرات تجعلها لاعبًا لا يمكن تجاهله في الإقليم والعالم. وعلى الرغم من أن الدولار الأميركي بلغ عتبة المليون ريال، فإن إيران ما زالت صامدة. ثرواتها الزراعية والصناعية والتجارية كافية لتأمين صمود داخلي طويل المدى”.

 في ظل هذا التباهي يصبح السؤال مشروعا:هل أنتم خائفون من تجدد الحرب؟

تأتي الإجابة حاسمة: “نحن مستعدون لها. فالحرب في حساباتنا واردة ،لكن التوقيت مجهول .ربما يكون بعد شهر أوشهرين، سنة أو سنتين ،وربما خلال عشر أوعشرين سنة. لكن إيران تستعد لها، وما لم يظهر في الحرب الأخيرة من وسائل عسكرية، سيكون مفاجأة في الحرب المقبلة..وكفى”.

 العلاقات الخارجية

لا يُخفي الإيرانيون وبصورة غير رسمية ،خيبة الأمل والعتب على روسيا التي لم تزود إيران بالأسلحة الدفاعية المطلوبة.وهنا ينتقل الكلام إلى الصين كشريك وحليف مستقبلي . فثمة ميل متزايد نحو الصين بعد شعور الإيرانيين بالخذلان من الموقف الروسي خلال الحرب. هذا التحول الاستراتيجي يفتح بابًا لعلاقات أعمق بين طهران وبكين التي تستورد كميات وافية من النفط الإيراني،وهي تمتلك من السلاح الحديث والمتطورما يكفي حاجة إيران الدفاعية، أما الأسلحة الهجومية من صواريخ ومسيرات ، فإيران تزود الآخرين بهذه الأصناف المتقدمة..

 

في ما يتعلق بالعلاقة مع النظام السوري السابق، يفضل الإيرانيون التزام الصمت، لكن في ثنايا الحديث يطفو عتب واضح وخيبة أمل من دمشق في العهد السابق، وكأنهم يشعرون أن التضحيات لم تُقابل بما يستحق من وفاء.

إيران منفتحة على العالم العربي بجميع دوله ،لا سيما الدول الخليجية التي تحاول طمأنتها إلى أن الجمهورية الإسلامية لا يمكن أن تشكل تهديدا لها. بقي أن تقتنع الدول العربية بذلك. وبحسب الأوساط الإيرانية سوف تكثف حكومة الرئيس بزشكيان حركتها الدبلوماسية في العالم العربي عبر وزير خارجيتها المرن عباس عرقجي الذي لا تهدأ حركته الخارجية .

ويعتقد الكثيرون أن التفاهم الإيراني السعودي كفيل بفتح الباب على كل العالم العربي ،في حين أن العلاقات الإيرانية المصرية أخذت في الفترة الأخيرة منحى إيجابيا واضحا ،وقد تمثل آخر فصوله بتوقيع الاتفاق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في القاهرة وبوساطة ورعاية مصرية خالصة.

المدن الإيرانية

واقع المدن الإيرانية الأخرى خارج طهران لا يختلف عن العاصمة، إن لم يكن هذا الواقع أكثر حيوية ونشاطا ،خاصة مدينة “مشهد” في أقصى الشمال الشرقي و”قم” في جنوب طهران ،وهما المدينتان اللتان تحتضنان الأماكن المقدسة ،من مقام الإمام علي الرضا في مشهد، ومقام شقيقته المعصومة فاطمة إبنة الإمام موسى الكاظم في قم.

فالسياحة الدينية إذا صح التعبير في هاتين المدينتين عصيّة على الوصف،حيث يحتشد الزوار في هذين المقامين يوميا بمئات الآلاف من إيران ومن الخارج في العالم الإسلامي الواسع .وتعكس هذه الحشود الزائرة حالة إقتصادية وتجارية منقطعة النظير في المدينتين.

مرقد الإمام الرضا في مشهد
..ومرقد المعصومة في قم

إيران النووية  

 

ويبقى السؤال الذي يضج في خواطر الكثيرين في إيران وخارجها: لماذا لا تمتلك إيران القنبلة النووية وتفرض توازن الردع مع خصومها،وهي قادرة على ذلك؟

تسأل فيأتيك الجواب التقليدي : إن السلاح النووي محرم شرعا ،والفتوى واضحة ومعلنة في هذا الموضوع.

يضيف المعنيون: إيران متمسكة ببرنامجها النووي السلمي أيا كان الثمن ، وهي تؤكد تصميمها على المضي فيه من أجل راحة الشعب الإيراني ورفاهيته. وتأسيسا على ذلك لم تتهرب إيران من مراقبة هذا البرنامج من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية ،وهي على الرغم مما حصل وقّعت الأسبوع الماضي في القاهرة إتفاقا مع هذه الوكالة لاستئناف الرقابة ،شرط ضمان عدم اعتداء جديد على منشآتها النووية أو فرض عقوبات جديدة عليها.

الرئيس المصري بين وزير الخارجية الإيرانية ومدير وكالة الطاقة الذرية

في الخلاصة ،

يخرج زوار طهران هذه الأيام بحصيلة مفادها: إيران تمارس حياتها بصورة طبيعية بعد الحرب ،مع ثقة عالية بالنفس وتكاتف سياسي ورسمي وشعبي قل نظيره، ،واستعدادات لأي حرب مقبلة ،ووعود بمفاجآت خلال هذه الحرب. وفي ظل هذه الأجواء انعقد الأسبوع الماضي في طهران المؤتمر السنوي التاسع والثلاثون للوحدة الإسلامية، وشاركت فيه وفود علمائية وشخصيات من نحو سبعين دولة إسلامية ،من أهل السنة والشيعة،حيث ضجت قاعة قصر المؤتمرات بنحو ألف مشارك،وسط تنظيم محكم ،ولم يسجل على مدى ثلاثة أيام أي إشكال أو حادث يذكر.وكان لبنان من بين المشاركين ممثلا بنائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب، ورئيس مجلس الأمناء في تجمع العلماء المسلمين الشيخ غازي حنينة، والمنسق العام لجبهة العمل الإسلامي الشيخ زهير الجعيد.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى