كتب حلمي موسى من غزة:
على الرغم من صعوبة الوضع في القطاع جراء وحشية الاحتلال وشدة الحصار ،الا أن ما نعانيه يذوق عدونا بعضه واحيانا بمرارة اشد. وتكفي اوقات تستمع فيها الى ما يدور في الاذاعات الإسرائيلية من مقابلات ونقاشات وتحليل للاخبار ،حتى تعلم أن الوضع في اسرائيل جد خطير، وان المستوى المهني على الاصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية يرى ان الخطر الذي تواجهه اسرائيل حاليا هو خطر وجودي وليس أقل من ذلك.
ومن النقاشات الجارية في الاذاعات يتولد انطباع يشبه ما تعلمناه في كتب التاريخ عن اسباب سقوط القسطنطينية. يتذكر بعضنا اقاويل مثل انه فيما كانت المدينة محاصرة كان كهان المدينة يتجادلون حول عدد الشياطين على رأس دبوس.
ورد هذا المثال في الخاطر حيث احتدم النقاش في الكنيست حول سن قانون لتعيين حاخامات الاحياء في المدن. ونظر كثيرون الى ان هذا القانون جاء لتعيين عدد من مقربي زعيم حركة شاس ارييه درعي. وبدا لوهلة ان هذا القانون اما سيبقي الحكومة او سيسقطها. ولذلك عمل نتنياهو على محاولة تمرير هذا القانون. ولذلك ضغط على اعضاء الكنيست من الليكود مثلما فعل في قانون تجنيد الحريديم. لكن هذا الضغط الذي وصل الى استبدال عضوين من الليكود في لجنة القانون في الكنيست لمنعهما من الاعتراض. وهذا ما اثار نوعا من التمرد في صفوف رؤساء بلديات هامة من الليكود. وانشغل نتنياهو بتهدئة الاجواء مع الليكوديين وصولا الى اعلان سحب تأييده لقانون تعيين الحاخامات.
وطبعا الامر لم ينته بذلك، اذ شجر خلاف جوهري بين نتنياهو ودرعي حيث اتهم الاخير الاول بالعمل ضد الحريديم. ونتنياهو اليوم بحاجة لكل صوت من الحريديم.
لكن المسألة لم تقف عند هذا الحد. رأى كثيرون كيف ان نتنياهو استدعى رؤساء بلديات لمناقشة تعيين حاخامات فيما لم يفكر باستدعاء رؤساء بلديات الشمال الواقعة غلى حدود لبنان والمهجر مستوطنيها والمدمر بيوتها ومنشئاتها جراء قصف حزب الله.
واعتبر كثيرون هذا سلوكا نموذجيا لنتنياهو الذي يسارع لتجيير كل انجاز لصالحه فيما يتجنب الاقتراب من كل ما يشير الى الفشل.
وواضح أن حزب الله واستمرار قصفه للشمال اسنادا لغزة يشكل نقطة فاصلة في التفكير الاسرائيلي حاليا، وذلك لترابطها مع ما يجري في غزة ومع العلاقة الامريكية الاسرائيلية ومع المخطط الامريكي للتطبيع مع الدول العربية والحل السياسي ومع دور ومكانة ايران في المنطقة.
وبديهي ان نقاش هذه المسألة يفتح الباب على عدة تطورات سنعرضها باختصار:
اولا، شريط الفيديو عن بنك اهداف حزب الله في حيفا والشمال. وهذا الشريط اشبه بهزة ارضية في الرأي العام الاسرائيلي الذي لمس لاول مرة بعض ما يعرفه حزب الله وبعض ما قد يستهدفه.
وفي هذا السياق لا بد من القول ان التعبير السائد هو ان لبنان ليس غزة زائد، وانما مستوى مختلف جذريا من الصراع. واذا كان القتال في غزة دام لشهور بالوتيرة القائمة فإن الحرب مع حزب الله ستدوم سنوات بوتائر أشد.
ورغم التهديدات الاسرائيلية بتدمير لبنان وتحويله الى غزة اخرى لا بد من الانتباه لواقع ان حكومة نتنياهو وافقت على مسارين مناقضين للتهديدات احدهما امريكي يدعم الجيش اللبناني ويعزز قدراته والآخر فرنسي يدعم القوات الدولية في الجنوب. يعزز مكانتها.
في كل حال وحسب ما ينشر في اسرائيل كانت التقديرات بخصوص قوة حزب الله الصاروخية تتحدث عن ٢٠٠ الف، لكنها الان تتحدث عن مليون صاروخ بمدايات مختلفة بعضها فائق الدقة.
ثانيا، نشر حزب الله فيديو بنك الاهداف اثناء زيارة هوكشتاين. ورغم ان هوكشتاين شخصيا اسرائيلي الاصل الا أنه حمل لاسرائيل موقفا امريكيا يقول بأنه لا تسوية في لبنان قبل توقف الحرب في غزة.
اسرائيل لم تكن تريد هذا الموقف وكانت تطمح لأن تقدم امريكا على توجيه انذار لحزب الله ولايران بانه اذا لم تتوقف النيران فإن امريكا بنفسها ستهاجم حزب الله وصولا لمهاجمة ايران.
وطبعا بايدن ليس في وضع يسمح له بالخضوع لاملاءات نتنياهو. وهذا فجر خلافا شديدا قاد الى تطورات لاحقة من بينها تجرؤ نتنياهو على اتهام ادارة بايدن علنا بمنع وصول اسلحة وذخائر لاسرائيل.
ثالثا، العلاقات الامريكية الاسرائيلية ليست كأي علاقة اخرى. فهي الدعامة الاساسية لوجود اسرائيل في الوقت الراهن. وكما اعلن عدد من قادة اسرائيل العسكريين من دون امريكا اسرائيل ستضطر لخوض حروبها بالسيف والرمح. وهذا كلام يقال رغم كل ما تملك اسرائيل من تكنولوجيا. فأمريكا هي حامية السلاح النووي الاسرائيلي ومن يمنع العالم من مناقشة امره. وهي من السلاح الرئيس الاحدث في العالم لاسرائيل. ورغم ادعاء نتنياهو بمنع ادارة بايدن السلاح عنه اقر الكونغرس معونة اكثر من ١٤ مليار دولار لاسرائيل لتغطية صفقات سلاح بينها ٥٠ طائرة ف ١٥ واف ٣٥.
غير ان العلاقة تدهورت بشكل واسع بين نتنياهو وادارة بايدن في ظل اعتقاد بأن نتنياهو يكرر مع بايدن ما سبق وفعل مع اوباما، اذ وقف نتنياهو الى جانب الجمهوريين وهو يتحدى بايدن علنا رغم كل ما فعله من اجل اسرائيل. ويدرك بايدن ان نتنياهو يراهن على فوز ترامب في الانتخابات المقبلة وانه يتحدى الديمقراطيين حتى في الخطاب الذي سيلقيه في الكونغرس الشهر المقبل.
وقد ردت ادارة بايدن سريعا على خطاب نتنياهو باعلانها الغاء اجتماعات استراتيجية مقررة بينها وبين وفد اسرائيلي لمناقشة الوضع في غزة ولبنان وايران. صحيح ان غالانت سيصل الى واشنطن ولكن من المؤكد ان الموقف الامريكي من نتنياهو سينعكس ولو جزئيا على محادثاته.
في كل حال هناك قناعة في اسرائيل بان ترامب شخص غير متوقع وأنه سيعامل نتنياهو واسرائيل بنوع من الاحتقار اذا فاز في الانتخابات .
رابعا، لا يملك نتنياهو حاليا اي حلول لا لغزة ولا للبنان ولا للعلاقات مع امريكا سوى مزيد من التوريط.
في اسرائيل قيادات ترى ان اسرائيل تضيع حيث نتنياهو يصادم امريكا ويريد ان يعلم قادتها كيف يتصرفون. وفي اسرائيل وزراء يريدون تعليم اوروبا كيف عليها ان تتصرف. وزير يلقن فرنسا دروسا وآخر يتحدى اسبانيا ويحقرها وثالث يرد على تركيا باستهانة ورابع على دولة اخرى وخامس على غيرها، فيما المحكمة الجنائية على وشك اصدار قرارها بخصوص اوامر الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت ربما تمهيدا لاعتقال آخرين.