كتب حلمي موسى من غزة:
كعادة أيام هذه الحرب الطويلة تتبدل الأدوار وتختلط الأوراق ولا تبدو في الأفق نهاية للتطورات التي لا تتوقف. فالاتصالات في القاهرة للتوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى ووقف القتال تصطدم بتناقضات إسرائيلية واضحة تستند إلى عقد أيديولوجية تمنع، حتى الآن، إبرام اتفاق رغم الضغط الأمريكي الهائل.
وإدارة بايدن، التي وقفت بقوة إلى جانب العدوان على غزة تواجه تظاهرات وتحركات في الجامعات وغيرها تربكها خصوصا مع اقتراب موعد الانتخابات. وبدا أن القوة الأعظم في العالم والمناط بها إدارة الشؤون الدولية غارقة في غزة وعاجزة عن تحريك أقرب حلفائها، إسرائيل، لإبرام اتفاق يكفل هيمنتها على المنطقة شرط تنفيذ حل الدولتين المرفوض إسرائيليا.
وهكذا، تجد حكومة نتنياهو نفسها تتخبط يمينا ويسارا في محاولة لإنقاذ ماء الوجه. تعلن جاهزيتها لدخول رفح، رغم التحذيرات والاستكارات الدولية، فتصطدم بعملية كرم أبو سالم التي فاجأت القيادة الإسرائيلية. وتحذيرات المعلقين السياسيين والعسكريين من أن دخول رفح لا يغير من طبيعة الحرب ولن يوفر لإسرائيل صورة النصر التي تريدها وقد يحدث كارثة إنسانية هائلة، لم يغير حتى الآن من الوجهة. ومن رأى أو سمع نتنياهو يتحدث أمس في حفل ذكرى الكارثة النازية شعر بأن الرجل قدم أكثر خطاباته سوداوية.
وحسب “يديعوت” ألقى نتنياهو أحد خطاباته الكئيبة مساء الأحد في ياد فاشيم، وربما حتى الأكثر كآبة على الإطلاق. كلام من نوع “الدم والعرق والدموع”، ولكن مع الكثير من الوحدة والكآبة – وبدون أي أمل أو تفاؤل أو رؤية. الفكرة الرئيسية في الخطاب كانت: شعبنا سيبقى وحيدا. وفي ذروة تخبطه بدلا من التركيز المعتاد على الخطر النووي الإيراني صار الخطر الحقيقي هو المحكمة الجنائية الدولية وتظاهرات الجامعات في أمريكا والعالم والحليف الجالس في البيت الأبيض. خطاب نتنياهو شكلاً وموضوعاَ أثار الخوف في إسرائيل أكثر من أي شيء آخر، وسيتحدث كثيرون عن حالة الفزع التي يعيشها. فهو يعلنها أنه لا يمكن لليهود الركون إلى “الأغيار” في حماية أنفسهم وأنهم سيبقون يعيشون على رماحهم.
ففي رسالة نشرها نتنياهو عشية ذكرى يوم المحرقة النازية، أشار إلى الانتقادات الدولية الموجهة لإسرائيل منذ اندلاع الحرب، وخاصة في ما يتعلق بالتحرك المحتمل في رفح. وادعى، على خلفية معارضة الولايات المتحدة للعمل في رفح، أن “الدرس الأول من المحرقة هو: إذا لم نحم أنفسنا فلن يحمينا أحد. وإذا كان علينا أن نقف وحدنا سوف نقف وحدنا.” وبحسب نتنياهو: “سوف ندافع عن أنفسنا بكل الطرق، وسوف نتغلب على أعدائنا ونضمن أمننا في قطاع غزة، على الحدود الشمالية، وفي كل مكان”.
أما وزير الحرب، يؤآف غالانت فما أن وقعت عملية كرم أبو سالم ضد القوات المتمركزة هناك تمهيدا لاجتياح رفح، حتى أعلن بشكل ضمني أن عملية التبادل فشلت وأن اجتياح رفح لا مفر منه وأنه وشيك. وطبيعي أن هذا أربك الإدارة الأمريكية التي كانت لا تعرف كيف تتصرف مع جمود المفاوضات، فأرسلت رئيس مخابراتها المركزية ويليام بيرنز إلى القاهرة والدوحة. ومع تطور الوضع قرب رفح عادت وطلبت من بيرنز الوصول إلى تل أبيب بقصد المساهمة في إعادة ترتيب الأوراق وضبط الوضع. وثمة من يعتقد أن محاولة أمريكا هذه لإنقاذ المفاوضات “لا يبدو أنها سوف تنجح”. ففي الساعات الأخيرة، انتشرت تقارير متضاربة بشأن تسليم حماس ردا، لكن مصادر مطلعة في إسرائيل قالت لموقع “واي نت” إنه حتى الآن لم يتم تسلم أي رد رسمي من هذا القبيل. وقالوا: “ربما يأتينا الجواب لاحقاً، لكن الجميع يفهم إلى أين يتجه هذا الأمر – رفح”.
وقرر رئيس وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز التوجه إلى قطر فور مغادرة وفد حماس القاهرة. وبعد زيارته لقطر، من المتوقع أن يصل إلى إسرائيل ويلتقي نتنياهو ورئيس الموساد ديدي بارنيع ومسؤولين كبار آخرين. وذكرت رويترز عن مصادر مطلعة على التفاصيل أن المحادثات في طريقها للانفجار، والآن ستمارس واشنطن والدوحة “أقصى قدر من الضغط” على الأطراف لاستمرارها. وبحسب المصادر الإسرائيلية، فإن ما يعطل المفاوضات هو إصرار حماس على إنهاء الحرب، ولو في المرحلة الثانية فقط، حيث تصر إسرائيل على تجنب أي التزام من هذا القبيل، وتدعي أن حماس تريد التأكد من ذلك في حال حدوث ذلك، وأضافوا أن “الأميركيين يحاولون إنقاذ المحادثات من الانهيار، لكن لا يبدو أن لديهم القدرة على التأثير على حماس”.
وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال، نقلاً عن مسؤولين مصريين، أن حماس تطالب بوقف طويل الأمد لإطلاق النار تحترمه إسرائيل، إلى جانب ضمانات من كبار مسؤولي الولايات المتحدة، وأعربوا عن قلقهم من أن الاقتراح الإسرائيلي الأخير سيكون “غامضًا” للغاية ويمنح إسرائيل خيار استئناف القتال.
في المقابل، أفادت شبكة “العربي الجديد” أن حماس قدمت ردها النهائي مرفقا بالتعليقات إلى مصر التي أحالت الرد إلى إسرائيل لمراجعته ، وفي الوقت نفسه عرضت القاهرة بدائل وسيناريوهات لتجاوز الخلاف الأساسي بشأن وقف الأعمال الحربية. وبحسب المصادر فإن “الجانب الإسرائيلي أصبح لديه وثيقتان، إحداهما رد حماس على التصريحات، والأخرى الصيغة التي توصل إليها الوسطاء بشأن وقف الحرب”.
ورغم ما يجري على هذا الصعيد تتزايد الاتهامات في إسرائيل نفسها للإدارة الأمريكية بأنها تعمل لمصلحتها الانتخابية بعيدا عن المصلحة الإسرائيلية كما يراها نتنياهو. ويدور مثل هذا الكلام في ظل تقارير تتحدث عن أن إدارة بايدن تؤخر شحنة ذخيرة كان من المفترض أن تصل إسرائيل الأسبوع الماضي. وأشار تقرير نشر في موقع أكسيوس، الذي استند إلى مصدرين إسرائيليين، إلى أن البيت الأبيض ومكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يردا على الأمر حتى الآن. وهذه هي المرة الأولى التي تؤجل فيها الولايات المتحدة شحنات الأسلحة إلى إسرائيل منذ 7 أكتوبر، في ظل معارضة الإدارة للعملية البرية في رفح.
وقد صرح مسؤول إسرائيلي بأنه “حتى في هذه الأيام، تستمر سلسلة من الشحنات الأمنية من الولايات المتحدة إلى إسرائيل. من الممكن أن تتأخر هذه الشحنة أو تلك، لكن التدفق مستمر ولسنا على علم بقرار سياسي بإيقافه”.
تجدر الإشارة إلى أنه في الأشهر الأخيرة، تم نشر عدد غير قليل من التقارير التي تفيد بأن الولايات المتحدة تدرس تأخير شحنات الأسلحة وحظر استخدامها في رفح، وفقًا لصحيفة “وول ستريت جورنال”. وفي فبراير، أُعلن أن بريطانيا تدرس أيضًا تعليق صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، إذا قامت إسرائيل بالتحرك في رفح.
في وقت لاحق فقط، نُشرت تقارير تفيد بأن الولايات المتحدة تدرس خطوة مماثلة، وفي هذه الحالة كانت تلك ضربة قاسية: فقد سلمت واشنطن أكثر من 100 شحنة أسلحة إلى إسرائيل منذ بداية الحرب، ومؤخرًا وافق الرئيس بايدن على عملية غير مسبوقة بزيادة حجم المساعدات المقدمة للجيش الإسرائيلي. ومن بين أمور أخرى، منذ بداية الحرب، نقلت الولايات المتحدة إلى إسرائيل قذائف ومكونات لتجميع القذائف بقيمة مئات الملايين من الدولارات، وصواريخ اعتراضية، وأسلحة موجهة والمزيد.
وعموما يبدو أن إسرائيل صارت تدرك أن العالم يتغير وبسرعة في غير مصلحتها. لكن عناد اليمين وإصراره، رغم كل الانتقادات الداخلية على تحقيق “النصر المطلق” تبقيه في دائرة الحرب ورفض الخروج منها حتى مقابل التطبيع مع السعودية وإنشاء تحالف إقليمي في مواجهة إيران بقيادة أمريكية.