سلوى فاضل – الحوار نيوز
يتميّز نص الباحث والكاتب السياسي سركيس أبو زيد بتقديم المعلومة لكل تحليل أو رؤية، وهذا ما شهده القارئ في كتابه السابق عن “المسيحية في إيران” الصادر أيضا عن “مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي”.
وفي الكتاب الذي بين أيدينا أيّ “إيران والمشرق العربي: مواجهة أم تعاون؟” الصادر ضمن “سلسلة الدراسات الإيرانية ـ العربية” عام 2010 بـ359 صفحة، يُورد أبو زيد نصوص الإتفاقيات التي تحدّث عنها في الكتاب في 7 ملاحق، مع عشرات المراجع والمصادر منها: اتفاقية سايكس ـ بيكو، ووعد بلفور، واتفاقية الجزائر بين العراق ولبنان، ونص معاهدة (كامب دايفيد)، و(اتفاقية وادي عربة)، و(إعلان يوم القدس العالمي)، و(نصّ تركي الفيصل حول الهلال الخصيب)..
ونحن إذ نستعيد هذا الكتاب اليوم ،ولا سيما بعد الاتفاق الايراني السعودي وعودة التقارب العربي الإيراني،فإنما لأهمية البعد التاريخي والديني والسياسي في هذه العلاقات ،خاصة أن هناك حاجة للعودة للدراسات والكتب المهمة في هذا المجال .
هذه النوعيّة من الكتب التي تضع النقاط على الحروف، والتي تبتعد بشكل واضح عن تغليب الرأي الخاص على المعلومة والتوثيق، تبرز أهميتها في مرحلة العقل البارد الذي بدأت أهميته تظهر اليوم بملامح السلم في المنطقة، سلم ليس بين العدو وصاحب الحق، بل بين “الإخوة – الأعداء”، إذا صحّ التعبير، بعد مناكفات على كافة الصعد والمدن والطرق، التي لم تذر إطارا عاما إلاّ وأفسدته هذه الخلافات التي تمظهرت بمظهر الخلاف المذهبي، وبغلاف ديني رغم أنّ هذا الصراع ذو واقع سياسي اقتصادي سلطويّ.
صراع تاريخي
في مقدمة الكتاب يكشف الكاتب أنّ التجاور الجغرافي ذو أهمية كبرى كونه ولّد صراعا امتد منذ العهدين الصفوي والقاجاري في إيران، والعثماني في البلاد العربية والإسلامية ككل، ولم يتوّقف مع الإحتلالين البريطاني والفرنسي للمنطقة العربية أيضا.
وقد سعّر هذا الخلاف أكثر صعود القوميّة في مراحل السيطرة التركية على المنطقة. رغم أنّ عدوهم واحد، سواء سابقا أم اليوم، إلا أنّ هذا الخلاف تلون وتنوع وتعدد. ومع هذا يدعو سركيس إلى “بناء مُتحدات إقليمية مُساندة قادرة على لعب دور استراتيجي فاعل”.
يتميّز نص سركيس أبو زيد بمقدمته التمهيدية المُحيطة بالموضوع من ناحية الجانب العلمي والمعلوماتي، فلا يدخل فجأة، بل يبدو كمن يُقدّم طبق مقبلات لوجبة دسمة.
فكل فقرة هي عصارة قراءات واستنتاجات مهمة. فالصراع السنيّ ـ الشيعي بدأ منذ القرن الخامس عشر مع الخلاف التركي ـ الإيراني، واستمر عبر الخلاف العثماني الصفوي والقاجاري. واستمر بسلسلة مراحل صعودا وهبوطا وكان أفضلها مع فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر. واشتدت توترا مع اعلان الإمام الخميني للثورة في بلده عام 1979. رغم أنّ الدين الذي يجمعهما هو أقوى رابط أمميّ، إلا أنّ اللعب على الخلافات المذهبية كان اسلوب الساعين لتكريس هذا النزاع في أغنى منطقة بالبترول والغاز.
ولم يكن الإيرانيون بمسلمين، وكانوا شتتا إلى أن دخل الإسلام بعد 4 قرون من الفتح الإسلامي لإيران، فتوّحدوا بعد أن كانوا شتتا وشيعا.
والجميل أنّ جميع أصحاب الصحاح الستة هم من أصول إيرانية، و2 من أصحاب المذاهب الأربعة السنيّة هم أيضا إيرانيون، وينحدران من مدينة خراسان.
والخلاف استمر إلى العصر الحالي حيث حط داخل الأسرة الهاشمية في كل من الأردن والعراق من جهة، والحجاز (السعودية) من جهة أخرى.
وقد استفادت الأسرة البهلوية والشاهنشاهية طويلا من النفوذ الغربي لتفرض سلطتها على منطقة الخليج. وكان التنافر والتجاذب مرتكزه مستوى العلاقة مع بريطانيا وأميركا.
عبدالناصر والشاه
أما العلاقة مع مصر فتميّزت بتغييرات ترتبط، كما أورد أبو زيد، بالقضايا الوطنية والمصالح والارتباطات مع الغرب. وكذلك الأمر مع العراق، ومع عُمان والكويت والأردن والسعودية وقطر وسورية ولبنان وفلسطين حيث الخلاف كان بجلّه حول مضيق هرمز وشط العرب والممرات والحدود الدوليّة، لكن ما يلفت أن الخرائط غائبة، ربما لكون الكتاب موّجه لخدمة التحليل التاريخي والتفسير الحضاري.
فالشاه كان يفرض سيطرته، عبر تسلّحه الفائض القوة، على الدول العربية، مما خلق نوعا من الصراع الخفيّ من خلال دعم المعارضات العربية مقابل دعم العرب للمعارضة الإيرانية على أراضيها.
وكانت النزعة القوميّة الإيرانية الشوفينية تجاه العرب هي المُحرك إلى أن قامت الثورة الإسلامية في إيران، فكانت لغة النظام الجديد لغة إسلامية موّحدة، لكن الغرب بدأ بمحاربة هذا النظام بأدوات عربية، أبرزها الحرب العراقية ـ الإيرانية التي استمرت لـ8 سنوات، وبدعم هائل لصدّام حسين من قبل الأنظمة العربية.
لبنان على خط اللعب
وكان العرب يخافون صدّام حسين، فوجدوا هذا الصراع إراحة لهم من طموحه الذي أظهره باحتلاله للكويت بُعيد خروجه من الأراضي الإيرانية عام 1988.
وكان الخلاف الأبرز مع شاه إيران هو اعترافه المُبكر بالكيان الصهيوني، فكان الخلاف السوري ـ الإيراني كبيرا نظرا لتصدّي سورية للقضية القومية، رغم أن حكومة محمد مُصدق دعمت القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة ضد الكيان الغاصب.
وكان المجتمع الإيراني منقسما بين مؤيد لفلسطين، وآخر مناوئ لقضيتها، نظرا لتجذّر التوّجهات الإسلامية في المجتمع الإيراني.
أما علاقة إيران بلبنان، فإتصفت بسوء تفاهم متقطّع، حيث كان للمخابرات الإيرانية دورا كبيرا في لبنان كونه كان ساحة لكافة أجهزة المخابرات العربية والغربية، لدرجة أنّ الشاه موّل الرئيس كميل شمعون بالسلاح لمواجهة خصومه في ثورة 1958 الشهيرة، في ظلّ انتشار المدّ الناصري في لبنان.
ومن سخرية التاريخ أنّ “لبنان كان بين عامي 1955 و1958 ساحة تنافس بين الشاه الأقوى نفوذا في الخليج، وجمال عبدالناصر الأقوى نفوذا في المقلب الآخر. فرّق بينهما انتساب الأول إلى قومية فارسية، حليفا لأميركا وإسرائيل، والثاني إلى قومية عربية عدوّة لهما يطمح إلى زعامة القارة العربية المحاذية… وكان شمعون رجل المواجهة في لبنان وقف بوجه زعيم مصري تغلغل نفوذه داخل البلد الصغير…”.
فـالدور الايراني في لبنان” بدأ مع الرئيس كميل شمعون، والمرة الوحيدة التي قُطعت العلاقات الدبلوماسية بين بيروت وطهران هو عند لجوء أول رئيس لـ(السافاك) تيمور بختيار إلى لبنان عام 1969 بعد عزله من قبل الشاه، الذي عاد واغتاله في العراق 1970.
والمُلفت أنّ التاريخ قد يسخر من الدول وليس من الأفراد، فقد كان الرئيس سليمان فرنجية “الجد” هو المُبادر لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع طهران بعد استقبال لبنان لمعارض إيراني. فهل يكون الرئيس المستقبلي سليمان فرنجية “الحفيد” هو المُبادر لعودة العلاقات السعودية ـ اللبنانية إلى سابق عهدها، بعد دعم مجموعة لبنانية للمُعارضة السعودية؟
الفصول والأبواب
يتوّزع الكتاب على 4 فصول، الفصل الأول يحمل عنوان: لمحة تاريخية: العلاقات الإيرانية-العربية ببابين: الباب الأول: ما قبل الثورة الإسلامية في إيران 1979. والثاني: ما بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.
الفصل الثاني: يقع تحت عنوان: الواقع الجغرافي السياسي في المشرق العربي، وهو موّزع على 5 أبواب، هي: الأول: أسماء متعددة لمكان واحد، الثاني: مشاريع الهيمنة الغربية على المشرق العربي، الثالث: المشروع الصهيوني التوسعي: إسرائيل الكبرى. الرابع: أزمات الدول والمجتمعات في المشرق العربي، والخامس: غياب المشروع الوحدوي-النهضوي العربي.
أما الفصل الثالث، فجاء تحت عنوان: تواصل إيران مع المشرق العربي. فنجد الباب الأول بعنوان: تداخل الجماعات المذهبية والإثنيّة. والباب الثاني: الخلافات العالقة: الوصل والفصل. والباب الثالث: تكامل المصالح الإقتصادية والاستراتيجية. والباب الرابع: مستقبل إيران والمشرق العربي وصيغ التعاون. أما الفصل الرابع فبعنوان: المشرق العربي والمواجهة بين إيران وإسرائيل. يتبعهم 7 ملاحق توثيقية، اضافة إلى مصادر ومراجع مهمّة.
ضخامة التسلّح العربي
يُعتبر الفصل الرابع والأخير الأهم في الكتاب، رغم أهمية جميع ما ورد فيه، لكونه يُقدّم وبالتفاصيل أمكنة ومواقع والأرقام الخيالية للإنفاق العربي على التسلح وعدد وأسماء القواعد العسكرية الأميركية في كل من قطر والكويت والبحرين والإمارات وعُمان والعراق.. بشكل غير مسبوق بحيث يمكن للأنظمة العربية_ لو أرادت تنفيذ إرادات شعوبها_ تحرير فلسطين، لتمّ لها ذلك بليلة واحدة.
ويظهر من حجم وتعداد القواعد العسكرية الضخمة أنّها جميعها أميركية لحماية هذه الأنظمة غير الديموقراطية سواء الملكية أم الجمهورية. في حين تقف هذه الأنظمة في مواجهة سياسية وأمنية وإعلامية وعسكرية مع إيران بحجة منعها من تطوير برنامجها النووي الذي لطالما أعلنت طهران عن أنّه لدواع علميّة وطبيّة..
فهل تخاف الأنظمة العربية من إيران بعد تغيير النظام فيها، فحوّلتها أميركا إلى شرطي الخليج كبديل عن النظام الشاهنشاهي السابق لحماية مصالحها من النفط والغاز، حيث أن اختراع الخلاف المذهبي كان الواجهة لأجل المزيد من السيطرة والرجعية والتطبيع والافقار والهجرة، اضافة إلى اغتيال عدد كبير من علماء إيران النوويين.
فضائح الوجود العسكري الأميركي في الخليج
الوجود العسكري الأميركي في الخليج ككل يستفز أيّة دولة معادية للأميركيين لحماية نظامها الشاب، فالدول الخليجية باتت عبارة عن قواعد عسكرية أميركية بترسانة ضخمة جدا، لدرجة أنّ مساحة البحرين توازي مساحة القاعدة العسكرية الأميركية فيها!!!!.
علما أنّ السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي رفضت استخدام أراضيها لضرب العراق عام 2003. لكنها وافقت على استخدام “قاعدة الأمير سلطان الجوية” للتنسيق الحربي ضد العراق.
كلّ هذه الترسانات العسكرية الضخمة تحت عنوان مكافحة الإرهاب! ولكن أيّ أرهاب أقوى من الإرهاب الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والعراقيين؟ علما أنّه ثمة نوع من الطائرات الحديثة ممنوع على هذه الأنظمة اقتنائها حتى لا تتفوق على الكيان الغاصب.
ختاما..
هذا الصراع الذي تنعشه مصالح الغرب في المنطقة يُحتّم على العرب والمسلمين في إيران “بلورة رؤية حضارية انسانية تاريخية مشتركة تحافظ على الهوية القوميّة الخاصة بالعرب، وتُبرّز المشترك الثقافي والاستراتيجي والمصالحي والمصيري”. والابتعاد عن الخلاف المذهبي علما أنّ إيران دعمت قوى المقاومة كـ”حماس والجهاد” وغيرهم وهم قوى مقاومة سنّية، والتوّقف عن الترويج لمقولة سعي إيران لتشييع السنّة.
علما أن السؤال الذي يطرح نفسه: أليس المذهبان (السنة والشيعة) هما من صلب الإسلام؟ وكيف لبلد تعداده ثمانون مليون مثلاً أن يُشيّع مليار مسلم؟؟ فالتفجيع والمبالغات واستخدام بعض المنابر لهذا الترويج يزيد من حدة الخلاف فتستمر الحاجة للحامي الغربي!.