الحوارنيوز – الأخبار
تحت هذا العنوان كتب محمد نورالدين في صحيفة الأخبار يقول:
نجح الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في مواجهة أكبر وأخطر تحدٍّ له ولسلطته القائمة منذ عشرين عاماً. فعلى رغم كلّ الحملات التحشيدية الداخلية – وحتى الخارجية – ضدّه، إلّا أنه استطاع الاحتفاظ بموقعه الرئاسي، مُحدِثاً انتصاراً تاريخيّاً على جميع خصومه، ليكون بذلك الرئيس الثالث عشر للجمهورية التركية. وإذا كانت النتائج تمثّل هزيمة قويّة للتيار العلماني، فإن إردوغان سيَنظر إليها على أنها انتصار عابر للحدود، وخصوصاً ضدّ الغرب، ولإعلانه أن الأمّة، من دون غيرها، هي مَن تَنتخب قادتها في صناديق الاقتراع. ووفق الأرقام النهائية غير الرسمية، حصل الرئيس التركي على أكثر من 52%، في مقابل ما يزيد على 47% حازها منافسه، زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، كمال كيليتشدار أوغلو، بزيادة متساوية بلغت 2.5% لكلٍّ منهما عن الدورة الأولى، ممّا قد يعني انقسام أصوات المرشّح سنان أوغان، والتي بلغت 5.2% في الدورة الأولى، مناصفة بين المرشّحَين؛ فيما بلغت نسبة الاقتراع 85.7%، متراجعةً بحوالى نقطتَين عن الدورة الأولى. ومع إعلان النتائج غير الرسمية، هنّأ كيليتشدار أوغلو، إردوغان، في اتصال هاتفي، بالفوز، وعمَّت الاحتفالات الشوارع التركية بانتصار «الرجل الصحّ في الزمن الصح»، الشعار الرئيس لحملة الرئيس التركي الانتخابية. ومن إسطنبول، أعلن إردوغان فوزه بالرئاسة، قائلاً أمام أنصاره إن «المسيرة المقدّسة لن تتعثّر، ولن نخيّب آمال كل مَن يعوّل علينا»، وإن «هذه النتيجة تثبت أنه ليس في إمكان أحد أن يجعلنا نخسر مكتسبات تركيا».
على أن الحملة الانتخابية عكست استقطاباً حادّاً بين النزعتَين المحافِظة والعلمانية، وتلك القومية والكردية. وفي هذا الجانب، بيّنت الدراسات واستطلاعات الرأي مَيْل المجتمع التركي بغالبيته (65%) إلى النزعة المحافظة والقومية المتشدّدة. وإذا كان 10% منها ذهب إلى «الحزب الجيّد» المعارض، بزعامة مرال آقشينير، نتيجة خلافات سياسية مع «حزب الحركة القومية»، فإن البقيّة صبّت كلّها دفعة واحدة في مصلحة إردوغان، وشكّلت العامل الرئيس في فوزه، وذلك انطلاقاً من نزعتَين:
– أولى، قومية تركية متشدّدة، وتقدَّر بـ15%، ترفض وصول مرشّح يحظى بتأييد «حزب الشعوب الديموقراطي» الذي يمثّل العصبية الكردية الرئيسة. وفي هذا الإطار، ركّزت حملة إردوغان، عبر الخطابات والفيديوهات الممنتجة والمزوّرة، على «ارتباط» كيليتشدار أوغلو بالانفصالية الكردية.
– ثانية، دينية محافِظة متشدّدة، وتقدَّر بـ 35%-40%، ترفض وصول شخصيّة علمانية قد تمثّل لها عودة إلى سياسات اضطهاد الإسلاميين في عهود سيطرة «حزب الشعب الجمهوري» والمؤسسة العسكرية.
ويمكن الإشارة إلى العوامل الإضافية التالية، والتي شكّلت أيضاً أساساً لانتصار إردوغان:
1- ارتكاز حملة الرئيس التركي على الإنجازات التي راكمها على مدى عشرين عاماً، وليس فقط خلال السنوات الأخيرة، وإظهارها على أنها استراتيجية وليست هامشية أو تفصيلية، مِن مِثل صناعة المسيّرات، والطائرات الحربية، وحاملة طائرات صغيرة، وتشييد الجسور الضخمة والمطارات والأنفاق والطرق السريعة، واكتشافات الغاز، والمستشفيات، وغير ذلك ممّا يعتقد إردوغان أنها صناعات تعزّز «الاستقلال الوطني» في مواجهة محاولات الخارج (الغرب) رهنَ تركيا لمنتجاته وسياساته. ومن هنا تحديداً، جاء وصْفه الانتخابات بأنها «حرب استقلال جديدة».
2- وكان لطريقة استعراض هذه الإنجازات التي عكست صورة «الرجل الواحد» وأهميّة «الفرد»، تأثير على مزاج الناخب في مجتمع، يقول الكاتب طه آقيول، يميل إلى «عبادة الشخصية».
3- الوعود الانتخابية بزيادة الرواتب والقروض وتقديم التسهيلات والإعفاءات، والتي وصلت إلى أرقام فلكية.
4- على رغم الوضع الاقتصادي المتردّي، فإن جانباً من المواطنين كان يرى في إردوغان عنصر ثقة واستقرار يمكن له أن يتجاوز الصعوبات وفق قاعدة «إذا كان هناك مَن يستطيع أن يفعل شيئاً ما، فهو إردوغان لا غيره». وبالتالي، كان عنصر «الخوف من ما بعد إردوغان» في قلب المعادلة لدى جانب من الناخبين.
5- وانطلاقاً من القاعدة نفسها، جاء تصويت غالبية سكان هذه المناطق (ومن بينها هاتاي) ليصبّ في سلّة الرئيس التركي.
6- على رغم أن تنوّع جبهة المعارضة يُعتبر عنصراً يعكس صورة تركيا الجديدة المتصالحة، إلّا أن البعض كان يرى في تعدُّد الرؤوس فيها عنصر عدم ثقة، خصوصاً وأنها شهدت في اليومين الأخيرين قبل ترشيح كيليتشدار أوغلو خلافاً عمودياً كاد يطيح بها، مع اعتراض زعيمة «الحزب الجيّد» على ترشيح زعيم «الشعب الجمهوري»، قبل أن تعود وتوافق.
7- وجود بعض القلق لدى القوميين الذين يمثّلهم «الحزب الجيّد» المؤيّد لكيليتشدار أوغلو من التحالف الضمني بين المعارضة و«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي. وربّما اختار جانب من المعارضة القومية في «الجيد» أن لا يصوّت لكيليتشدار أوغلو، وهو ما قد يوضّحه تراجع النسبة التي نالها الحزب بثلاث نقاط، والتي يمكن أن تكون جُيّرت لحزب «الحركة القومية» – لا سيما وأنه نال أكثر من المتوقّع بثلاث نقاط -، وصبّت تالياً في إردوغان.
8- لعب الإعلام دوراً كبيراً في تعميم صورة إردوغان والدعاية له. وباستثناء اثنتَين أو ثلاث، كانت معظم المحطّات التلفزيونية موالية لرئيس الجمهورية، وتنقل مباشرة كلّ مهرجاناته ونشاطاته، فيما لا تنقل أيّ نشاط للمعارضة، في انعكاس للخلل في مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص.
9- الدور المهمّ الذي لعبته بعض الدول الخارجية، وفي مقدّمها روسيا، في دعم حملة إردوغان، من خلال ضخّ الأموال الاستثمارية، ولا سيما في قطاع الطاقة (الغاز الطبيعي) في تركيا، والترويج لإنجازات الرئيس التركي عبر افتتاح مفاعل مرسين النووي، الذي بنته روسيا، عشية الانتخابات، وقبل أن ينتهي العمل فيه.
تعكس النسبة العالية التي نالها كيليتشدار أوغلو انقساماً عموديّاً في المجتمع التركي
ويضاف إلى الدور الروسي، ذلك الذي لعبه رأس المال الخليجي من خلال استثمارات الصندوق القطري وصندوق الاستثمار العام السعودي، في مؤسسات تركية خارج قطاع الطاقة، وفي شركات مهمّة تابعة للصندوق السيادي التركي، مِن مِثل الخطوط الجوية، و«تورك تيليكوم»، و«توركسل»، فضلاً عن «الودائع» المالية في المصارف، والتي يعرف إردوغان أهميّتها في الحفاظ على استقرار سعر صرف الدولار ليوازي حوالي 19 – 20 ليرة لعدّة أشهر. وقد أشار الرئيس التركي، أخيراً، إلى أن «جولة شكر»، وربّما زيارة للحج أيضاً، ستعقب الانتخابات في حال فوزه بالرئاسة، سيقوم بها إلى الدول الخليجية. ولا يغيب أيضاً، تدخُّل الرئيس الآذربيجاني، إلهام علييف، شخصيّاً، مع المرشّح الثالث سنان أوغان، الذي تربطه به علاقة وثيقة، لتجيير الـ5% من الأصوات التي نالها في الدورة الأولى، لمصلحة إردوغان في الدورة الثانية. أيضاً، كان لإيران دور في إقناع بعض القوى في تأييد إردوغان، وفي تعميم مناخ الدعم له، في إطار التنسيق الإقليمي والدولي مع تركيا وروسيا وغيرهما.
الآن، وعلى الرغم من النسبة العالية التي نالها كيليتشدار أوغلو والتي تعكس انقساماً عموديّاً في المجتمع التركي، فإن ما يمكن أن يخشاه التيّار العلماني، هو أن يعزّز وجود إردوغان في السلطة لخمس سنوات إضافية، حملة استئصال العلمانية، كما صورة «أتاتورك» من الدولة والمجتمع، لمصلحة تزخيم النزعتَين الدينية والقومية المتطرّفة، خصوصاً أن انتصار إردوغان يصادف الذكرى المئوية لإعلان الجمهورية، وما يرغب به الرئيس التركي من طيٍّ لقرن، وافتتاح آخر مغاير. لكن الأكيد، في هذا الخضمّ، هو أن النظام الرئاسي سيزداد قوّة، فيما ستصبح خارج المداولات فكرة التخلّي عنه والعودة إلى النظام البرلماني، وما يعنيه كلّ ذلك من تعزيز نظام حُكم الفرد الواحد.
لكن انتصار إردوغان يعني أيضاً، استمرار التحدّيات الداخلية المزمنة، والتي ظهرت جليّة خلال الحملة الانتخابية، وعلى رأسها كيفية حلّ المشكلة الكردية التي لا تزال، في المنظور «الإردوغاني»، قرينة الإرهاب والانفصالية، فضلاً عن أن المسألة العلوية ستواصل كوْنها واحدة من التحدّيات في الولاية الجديدة لإردوغان. ومن التحدّيات المحتملة أمام إردوغان شخصيّاً، كيفيّة الحفاظ على قوّة «حزب العدالة والتنمية»، بعدما فقد 14 نقطة منذ عام 2015، وعاد إلى الحجم الذي كان عليه عام 2002، بنيْله 35% من الأصوات، وإعداد شخصيّة جديدة تخلفه في زعامة الحزب وفي الرئاسة بعد خمس سنوات من الآن.
وقد لا يكون من المبكر الحديث عن تأثير خسارة البرلمان والرئاسة على قوى المعارضة وما إذا كانت ستستمرّ في إطارها التحالفي مع بعض التعديلات، أم أنها ستواجه الاعتراف بأسباب الفشل وتحمُّل المسؤوليات وما يترتّب على ذلك من تداعيات سلبية وانقسامات. وربّما يكون زعيم «حزب الشعب الجمهوري» منذ عام 2010، كمال كيليتشدار أوغلو، الضحيّة الأولى لهذا الفشل، في إطار إعادة النظر بكلّ السلوك السابق، وما قد يتطلّب من تغيير في زعامة الحزب وتقدُّم أسماء أخرى نحو الواجهة، مِن مِثل أكرم إمام أوغلو، ومنصور ياواش، أو غيرهما.
أمّا على الصعيد الخارجي، فإن فوز إردوغان يعني، بشكل أو بآخر، استمرار السياسات الحالية بكلّ خيرها وشرها. بل يمكن أن يكون انتصاره باعثاً للتشدُّد والابتزاز، بعدما تحوّل إلى واقع يحكم تركيا لمدّة خمس سنوات كاملة، وبعدما لم يَعُد مضطرّاً لتقديم تنازلات بفعل الحسابات الانتخابية. وهنا، ستكون الأنظار متّجهة إلى الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة التي يمكن اعتبارها مهزومة، بعدما توعّد رئيسها، جو بايدن، بخلع إردوغان؛ وما إذا كانت واشنطن والعواصم الأوروبية ستغيّر من سياساتها تجاه الرئيس التركي، أم أن الجفاء سيستمر في العلاقة بينهما، في حين يُتوقّع أن تواصل تركيا الالتزام بسياستها الأطلسية، كونها عضواً في الحلف، ولكن بما لا يؤثّر على ما تعتبره «مصالح وطنية» في أكثر من قضيّة، ومع أكثر من بلد.
في المقابل، ستتعزّز العلاقات مع روسيا وإيران، اللتَين عبّرتا بوضوح، بل وساعدتا على تعزيز فرص إردوغان. لكن من غير الواضح ما الذي ستكون عليه سياسة الرئيس التركي الجديدة تجاه سوريا، وما إذا كان مستعدّاً للتجاوب مع الضغوط الروسية والإيرانية لتسهيل الوصول إلى حلّ للمشكلات القائمة مع دمشق، أم أنه سيجد نفسه متحرّراً من أيّ حسابات انتخابية، وسيتصلّب في مواقفه تجاه قضايا، مِن مِثل الانسحاب، واللاجئين، والمسلّحين، والأمن الحدودي، مع التوقّف عند «الرسالة القويّة» التي بعثها الرئيس السوري، بشار الأسد، في مؤتمر «القمّة العربية» في جدة، عن «خطر الفكر العثماني التوسّعي المطعّم بنكهة إخوانية منحرفة»، وما إذا جاءت لترسم «خطوطاً حمراء» جديدة فاصلة في العلاقات مع تركيا في المرحلة المقبلة، والتي لا تقبل سوى السيادة الكاملة للدولة على كل جزء من تراب سوريا، وكل ما يتعلّق بأمنها القومي.