رأيسياسةمحليات لبنانية

أَلا مِنْ نِهايَةٍ لِهَذِهِ الشَّبَكَةِ المُمْسِكَةِ بالسُّلْطَةِ في لُبْنان؟(وجيه فانوس)

 

د. وجيه فانوس – الحوارنيوز خاص

لطالما جرت حوارات عديدة، رافقتها نقاشات أكثر، حول إمكانيات حصول تغيير في ناس الشَّبكة الممسكة بزمام السلطة في لبنان؛ وتبديل في مفاهيمها وقيمها، لصالح الجهد الوطني الجامع، بعيداً عن التحلق الطائفي والارتهان المذهبي والتزلم لهذا الزعيم أو ذاك. وكان التأكيد، في الجلسة التي عقدها المجلس النيابي اللبناني مؤخرا، على عقم هذه الحوارات، وتلاشي جميع ما بني عليها من آمال وطنية. لم تشهد هذه الجلسة أي اهتمام فعلي، على سبيل المثال وليس الحصر، بالبحث في تعديل سن الانتخاب إلى الثامنة عشرة من العمر، بما يتيح إمكانية ممارسة حوالي 180 ألف شاب وصبية للحق الانتخابي؛ كما لم يجروء أحد من النواب، ولو في محاولة خجولة، للبحث في إمكانية لإجراء انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي؛ وتأكد، أيضاً، أن موضوع الحصة النسائية الثابتة في الانتخابات (الكوتا)، لم يستغرق الحديث فيه أكثر من ثوان قليلة، خصصت لإبعاد هذا الموضع عن أي اهتمام جدي. ومن جهة أخرى، فإن ردة الفعل من مقام رئاسة الجمهورية، على ما وافق المجلس النيابي على اقتراحه بشأن قانون الانتخابات هذا، ظلت محصورة بموضوع مناخي، وآخر يتعلق بحرمان حوالي عشرة آلاف ناخب من ممارسة الحق الانتخابي، في حال أجريت الانتخابات النيابية في 27 آذار (مارس) 2022، وليس في شهر أيار (مايو) من السنة عينها. وقد لا يكون ثمَّة بأس، في هذا المجال، من الإشارة إلى تكاثر في الهمس والغمز من صعوبات قد تعترض تحقيق إجراء هذه الانتخابات النيابية في الوقت الراهن.
من المتفق عليه، بين اللبنانيين، أن معظم الشأن السياسي التنفيذي في البلد، إن لم يكن كله، تتوارث تولي أمور ناسه، مجموعات، تعرف، كل منها، في المصطلح السياسي اللبناني، بـ”العائلة السياسية”. و”العائلة السياسية”، هذه، كتلة مجتمعية، يذيع بعض أفراد منها، بتلفيق سيادة لهم على بعض القوم، اختصاصهم بالعمل السياسي؛ فيقومون بإدارة ما يقدرون عليه من شؤون البلد وأمور الوطن. ولقد كان لتقادم الزمن، ودوامه على استمرار فاعلية هذه العائلات السياسية؛ ومعها الذين تمكنوا من الانضمام إليها، وإنشاءِ عائلاتهم التوارثية “السياسِية”، أن تشكلت شبكة قائمة بذاتها؛ تولت، خلال حقب من التاريخ في لبنان، وعبر عقود من الزمن المعاصر، الإمساك بتلابيب السلطة في البلد، والاستئثار الأساس بشؤونها، كبيرة كانت أو صغيرة.
ارتكزت هذه الشبكة، التي أمسكت بمقدرات السلطة السياسية في لبنان، على جوهرية للبعد الديني في الفرز الشعبي اللبناني؛ معتمدة الطائفة الدينية، وما ينبثق عنها من مذاهب، وحدة أساسا في رؤيتها إلى تكوين الشعب. صار مفهوم العيش المشترك في لبنان، بإدارة هذه الشبكة وارتكازا إلى قيمها ومصالحها، هو التعايش المبني على الطائفية الدينية؛ وبات النظر إلى السلطة، وما فيها من أمور الحكم، قائما على تقاسم بين سياسيي الطوائف والمذاهب، وفاقا لنسب محاصصات معينة ارتضوها في ما بينهم. وتحصل من هذا جميعه، أن يكون المتولون السياسيون، في هذه الشبكة، من أهل كل طائفة أو مذهب، وفي أحيان كثيرة، برعاية معنوية من القيادات الروحية للطوائف والمذاهب التي ينتمون إليها، هم القيمون على توزع خيرات الوطن ومصالح البلد وحقوق الناس، في ما بينهم وبين ناسهم.
ألمت بهذه الشبكة الممسكة بزمام السلطة في لبنان، خلال الحقبة الأخيرة من الزمن، وخاصة في السنتين الأخيرتين المنصرمتين، ثلاث نكبات، مما لا يمكن تجاهله، ولا يجب السكوت عن عواقبه؛ إذ هي خطوب جسيمة، تطال الوطن؛ وملِمات مهلكة، تطبق على خناق كل واحد من جماهير الشعب؛ وضراء مفنية، تصيب الحاضر كما الآتي من الزمن على حد سواء.
أولا: أنه بعد ما صار يعرف بتسوية سنة 2016، التي قامت على تفاهم إقليمي دولي، أنهى الشغور الرئاسي الذي عقب انتهاء ولاية رئيس الجمهورية اللبنانية، من سنة 1914، بوصول الجنرال ميشال عون، إلى سدة الرئاسة، في تشرين الأول (أكتوبر) سنة 2016؛ فإن أمر تشكيل حكومة في لبنان، أصبح، بطريقة أو أخرى، خارج إمكانيات جميع مقومات هذه الشبكة المتمكنة من السلطة في البلد. ولعل أفضل ما يمكن استخلاصه من حال الشبكة الممسكة بالسلطة اليوم في لبنان، أنها أصبحت، وبعد أن استمرت في إدعائها المحافظة على استقلال البلد منذ سنة 1943، قد أثبتت اليوم، في سنة 2021، أي بعد سبع وثمانين سنة من هيمنتها على شؤون الحكم، وسيطرتها على مقدرات الدولة فيه؛ قد أصبحت، وبكل ما في الحال من إبتئاس وطني، وترح مجتمعي وجزع جماعي وحسرة شخصية، فاقدة لأي إستطاعة أو قدرة أو احتمال لها، لحفظ الاستقلال الوطني للبلد وصونه، على الإطلاق.
ثانياً: يتجلى هذا الأمر، من عدم وضوح موقف هذه الشبكة، وما يلحق به أو يتبع له، من الموقفين الإداري والقضائي للدولة، من موضوع ما بات يعرف بالمال العام المنهوب؛ وما يرتبط بكل هذا، من الوضع العام المالي لمصرف لبنان، من جهة أخرى. من المعروفِ أنَّ لبنانَ يُعاني، منذ أواخر سنة 2019، تخبطا ماليا مريعا، وتراجعا مرعبا، في قيمة صرف الليرة اللبنانية. صاحب هذا الحال، تنافس مخز في التهرب من تحمل المسؤوليات تجاه ما يحصل؛ ووهن أجهزة التفتيش والمحاسبة في الدَّولة، عن إتخاذ إجراءات إدارية واضحة في هذا المجال. وقد برز هذا الحال، بوضوح، في ما برح يختبره الناس، من عدم قدرة للدولة، التي تمسك هذه الشبكة بأمورها وتتحكم بأحوالها ومصائر الشعب اللبناني من خلالها، على أن تقاضي أي مسؤول مالي كبير وأساس في شأن مالي لبناني. وإن النتيجة المستخلصة بجلاء، لا لبس فيه، من هذا جميعه، تشير، بكثير من الأسف والخزي، إلى أن ثمة ما يشبه لواء إبهام في الرؤية، تنضوي تحته هذه الشبكة؛ أو أنها تنهض، في ما بينها، على تحالف تجاهل يدفع بأمور البلد الأساس لأن تكون ألغازا تعجيزية، أو ثمة، بين أعضائها، شراكة إغتصاب عاهر، ونهب دنيء فاجر، ترتع ضمن بنيتها؛ وهذا جميعه مما يفصح عن جزم بأن من هم في هذه الشبكة، يعانون غياهب ظلماء فاحشة العتمة في الرؤية والرؤيا الوطنيتين، بأي حال كانوا عليه، وضمن أي توجه هم فيه.
ثالثا: إنَّ الضياع والغموض، اللذان يعيشهما القابضون على عدم التمكن، حتى اللحظة، من تبيان حقيقة ما أدى إلى التفجيرات في مرفأ بيروت في الرابع من آب2020؛ ومن عدم التمكن من البدء بأي تحقيق جنائي مالي لموضوع المال العام وأموال المودعين في المصارف اللبنانية؛ وكل ما له علاقة بحقوق التثبيت أو تجديد العقود أو حتى احتساب الأجور وتعويضات العمل، لكثير من العاملين في مرافق الدولة، وفي مقدمتهم أساتذة التعليم في وزارة التربية.
تبين هذه الخلاصات الثلاث، بكل ما في الوضوح من إشراق فاضح:
1- مدى إضاعة الشبكة الممسكة بالسلطة في لبنان، منذ أكثر من ثمانين سنة على الأقل، القدرة على حفظ الاستقلال الوطني للبلد.
2- فقدان، قادة هذه الشبكة، لصوابية الرأي والرؤيا الوطنيين، في التعامل مع قضايا الشعب ومصالحه، خارج تعاملهم مع قضاياهم ومصالحهم الشخصية والعائلية.
3- سوء ما يقوم به أرباب هذه الشبكة وسياسيها، من سفه في التدبير وبؤس في التخطيط.
ويثبت، كل هذا، وبجلاء لا لبس فيه، النتيجة الأساس، التي قوامها مصيبة كأداء في الوجود اللبناني الوطني والسياسي؛ ونكبة كلية شاملة نابعة من المفهوم الذي أرسته هذه الشبكة، بتعاملها مع النظام اللبناني على أسس الطائفية والمذهبية السِّياسِيَّتينِ، فغدت وهي لا تفقه من الحق الوطني غير محاصصة تستخدمها لنيل مآربها الشخصية ومنافعها الخاصة.
ترسم هذه النتائج، مجتمعة، بكل ما فيها من مصائب عظمى، مفاهيم خداعة وقيما مدلسة للثقافة الوطنية المهيمنة على كثير من جماهير الشعب في لبنان. إنها تلك المفاهيم والقيم القائمة على الاحتماء بمن يعتقد كثير من المواطنين، أفرادا كانوا أو جماعات، أنه من يقف حاميا للهوية الدينية والمصلحة المذهبية؛ والقادر على تأمين ما يخيل إليهم، من سراب المصلحة الفردية أو الجمعية. وانطلاقا من هذا، فإنهم لا يجدون ذواتهم إلا في لجوء إلى الاحتماء بالزعيم، أو التوسل بقوة يستحصلون عليها من مال أو سلاح أو نفوذ أو علاقات.
يفضي أمر الشبكة الممسكة بالسلطة في لبنان، بعد هذا الاستعراض لأحوالها، إلى ضرورة وطنية قصوى وعاجلة، ترفض كل تشكل أو بناء أو مظهر أو وجود، لها. ومن هنا، يصبح المطلوب، بل المحتم الوطني في لبنان، وضع خطة تغيير مفهومي وعملي بنائي وطني عام؛ يضم جميع المتوافقين على النتائج المتحصلة من هذا الاستعراض. ولا بد، تاليا، من التيقظ الفطن والحصيف والقدير الواعي، إلى أن هذه الشبكة لن تسمح، على الإطلاق، ومن منطق المحافظة على الذات والمكتسبات والمصلحة، بقيام ما يمكن أن يساهم في تضييع ما سبق أن أحرزته من هيمنة على البلاد، وتلاشي ما أفلحَت في التسَلط عليه من مصائر أفراد الشعب وطوائفه، فضلا عن إمكانية إضمحلال ما تظفر به من الهيمنة على البلاد.
تؤكد الصفوة من كل هذا، متضمنة ما قرره المجلس النيابي اللبناني، مؤخرا، بشأن قانون الانتخاب الذي سيعتمد لدورة سنة 2022، أن لا مجال للوصولِ الفعلي العملي والملموس الواقعي، إلى نظام انتخابي، يؤمن تمثيلا شعبيا حقيقيا فاعلا، عبر إدارة هذه الشبكة الممسكة بالسلطة؛ بكل ما يمكنها استخدامه من قدرة، والاستعانة به من دهاء، والتوَسل به من حنكة، والاعتماد عليه من ترهيب وتهويل وتفزيع وإلهاء.
لعل من الخطوات الديموقراطية العملية لتحقيق هذا المطلب، ما يمكن أن يرشد إليه الدستور اللبناني الحالي، بالنص الحرفي للنقطة (د) من مقدمته؛ إذ يرد، في هذه النقطة، وبالحرف الواحد، أن “الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية”. لذا، ولما كانت هذه الشبكة الممسكة بالسلطة، فاقدة لمقومات الحفاظ على الوطن وتنمية مكتسباته؛ فإن لجميع قوى الشعب، من تنظيمات وهيئات وجمعيات وأحزاب ونقابات وشخصيات، المتوافقة في ما بينها على هذه الرؤية، أن تجتمع، وفاق المفاهيم الديموقراطية وقيمِها، على عمل ديموقراطي، على إنقاذ البلد من هذا التردي.
إن قيام مؤتمر وطني شامل ودائم، يتولى إقرار التشريع لقانون انتخابي، يسْتجيب للرؤية التي تحقق مصالح الوطن والمواطنين بالتساوي، ومن دون أي تمييز؛ وتتناغم مع رؤاهم في نهوض وطني شامل صارت ضرورة وطَنية شاملة، لن يمكن التسويف في تحقيقها ولا التلهي على طريق تنفيذها. وقد يكون هذا الأمر، من أكثر الأمور وطنِية وفعالِية، للخلاص مما يعانيه البلد في هذا المجالِ، أنْ يبتنى هذا المؤتمر العتيد على مفاهيم المواطنة وقيمها؛ بعيداً، بالكلية المطلقة، عن كل ما هو تابعيّة لطائفة أو مذهب أو منطقة أو الاستعانة بنفوذ زعيم أو متنفذ.
*باحث – رئيس ندوة العمل الوطني – لبنان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى