أين فشل الحزب السوري القومي الاجتماعي؟(صفية سعادة)
الحوارنيوز – الأخبار
تحت هذا العنوان كتبت صفية أنطون سعادة في صفحة الرأي في الأخبار تقول:
تحديد ماهية الفشل
قد نختلف حول الأسباب التي أدّت إلى فشل الحزب السوري القومي الاجتماعي، والغالبية إجمالاً تستعمل الوصول إلى السلطة كمقياس للفشل أو النجاح، فيُعتبر الحزب ناجحاً إن استطاع الحصول على عدد محترم من النواب في المجلس التشريعي، أو وزراء في المجلس التنفيذي. والبعض الآخر قد يلقي اللوم على أسباب خارجية، من تنكيل ومطاردة من قبل السلطات المحلية والغربية، ويزكي سياسات الحزب التي لا غبار عليها. كل هذه العوامل موجودة ومن الممكن دراستها، لكن العامل الأساس الذي يحدد في ما إذا نجح الحزب أو فشل، لا يجب أن يرتكز على تطلعاتي، أو تطلعات غيري، بل بناءً على الأهداف التي حدّدها أنطون سعادة في تأسيسه للحزب، فهو لم يأت رئيساً لحزب مؤلف في السابق، بل أنشأه من لا شيء، ولم يرتكز فيه على أيديولوجية غربية أو شرقية، بل اجتهد منفرداً، وقدّم مشروعاً يصبو إلى إخراج بلاده من براثن الدمار الذي ولّده الاستعمار الغربي في بداية القرن العشرين. معيار مقدار فشل الحزب أو نجاحه يتوقف إذاً على الأهداف التي وضعها سعادة للحزب السوري القومي الاجتماعي. في المادة الأولى من دستور الحزب، ينص سعادة بوضوح كامل على غاية إنشاء الحزب: «بعث نهضة سورية قومية تعيد إلى الأمة السورية حيويتها وقوتها، وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة السورية استقلالاً تاماً، وتثبيت سيادتها وتأمين مصالحها، ورفع مستوى حياتها، والسعي لإنشاء جبهة عربية».
كل المواد الأخرى التي تلي هذه المادة هي مواد تنفيذية في كيفية تنظيم الحزب من أجل الوصول إلى غاية إقامة أمة سورية (أو سوراقية) والمساهمة في نهضتها. نستطيع أن نتشعب، وأن نختلف حول كيفية الوصول إلى توحيد هذه «الأمة السورية»، لكننا لا نستطيع أن نلغي أو نستبدل الهدف، وإلا أصبحنا خارج مبادئ سعادة. لذلك، وضْع الحزب كهدف بحد ذاته، وعدم اعتبارِه وسيلة لبناء الأمة «السوراقية»، هو إلغاء لمشروع سعادة، لأننا حين نضع الحزب كهدف، يصبح الحزب حزباً سياسياً كبقية الأحزاب يتصارع مع غيره للوصول إلى السلطة، فيتماهى أعضاء الحزب مع السياسات الفردية للقيادات الحزبية، ويضيع المعيار الذي على أساسه بُني الحزب، والذي على أساسه أيضاً اعتبره سعادة أهم منجزاته على صعيد العمل المؤسساتي، أي بناء وسيلة تنفيذية لمشروع إقامة «سوراقيا»، لذلك أضاف كلمة «اجتماعي» في تسمية حزبه، لأن هدفه هو بناء المجتمع السوراقي. السياسة ليست هدف الحزب، بل وسيلة من وسائله لبلوغ الهدف.
هذه المؤسسة الحزبية التي اعتبرها سعادة من أهم منجزاته التنفيذية لخططه، تحوّلت إلى حلبة صراعات سلطوية ضمن الجهاز الحزبي، وانتهت صراعات دموية. فمنذ استشهاد سعادة لا نجد أي ورقة، أو كتاب أو تعميم على القوميين يحدد الخطة الآيلة إلى تنفيذ مشروع سوراقيا أو سوريا الطبيعية. لم يقدّم لا رؤساء الحزب، ولا المجالس التشريعية والتنفيذية والقضائية، أي مشروع، صغير أو كبير، في سبيل الوصول إلى إقامة سوراقيا، واستُعيض عن ذلك في ممارسة السياسة ضمن الكيانات التي قسّمها الغرب.
هدف إنشاء الحزب
لم يأت أنطون سعادة قبل أوانه كما يظن البعض. أتى في أوانه، لا بل تأخر قليلاً، لأنه في العام الذي وصل فيه إلى بيروت، أي عام 1930، كانت سوراقيا، وبلاد الشام قد قُسمت من قبل البريطانيين والفرنسيين، ضد رغبة السكان الذين كانوا يودون البقاء متحدين كما بينت بوضوح بعثة كينغ-كراين، وهي بعثة أميركية أرسلها الرئيس الأميركي ودرو ويلسون عام 1919 مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، واندثار الإمبراطورية العثمانية، لتحديد مصير المنطقة. غفل الحزب عن المشروع الذي وُلد من أجله، أي رفض التقسيم الذي لم ينبع من إرادة الشعب، بل من قهر واستعباد المستعمر للمنطقة وخيراتها، وعلى رأسها النفط، عبر بناء دول طائفية وإثنية وإذكاء الصراعات والحروب في ما بينها.
لم يكن المشرق العربي مقسماً قبل سايكس-بيكو كي نتكلم عن مشروع أنطون سعادة وكأنه أيديولوجية يريد خلقها من العدم، وبالتالي استحالة تنفيذها. منذ القدم، مثلّت منطقة الهلال الخصيب حضارة واحدة، اجتاحتها جيوش أجنبية غربية وشرقية عديدة لثرائها وموقعها الجغرافي، من اليونان إلى الرومان، إلى التتر والمغول، إلى الفرنجة، إلى العثمانيين، لكن كل هذه الامبراطوريات لم تقسّم المنطقة إلى دول مصطنعة إلا مع وصول الاستعمارين الفرنسي والبريطاني من أجل إضعافها واستغلالها والسيطرة الكاملة عليها. هذا الواقع الذي فرضه الغرب، رفضه أنطون سعادة، كما والده الدكتور خليل سعادة من قبل، وغالبية اللبنانيين أيضاً. فجيل خليل سعادة، ومن بعده جيل أنطون سعادة، وُلد على أرض سورية كون اختراع لبنان من قبل الفرنسيين لم يتم قبل العام 1920. بالتالي حين قدّم سعادة مشروعه كان يتكلم باسم غالبية أهل بلاد الشام والعراق، وضد وجود الكيان الصهيوني المصمم على إلغاء فلسطين وشعبها. كان سعادة ووالده يسابقان الزمن، لخوفهما من حلول كارثة سيعاني منها الشعب السوراقي لأجيال وأجيال، وهذا ما حصل. من بين كل المشاريع للأحزاب المختلفة في عصره، سعادة هو الوحيد الذي ركّز على العامل الجغرافي كمحدد للهوية، لأن الهوية الوطنية/القومية لا تتصل بعنصر أو دين معين، بل تنبع في العالم الحديث من مكان الإقامة، وهذا ما يدوّن في جوازات سفرنا. إقامة شعب على أرض معينة، وتفاعله معها عبر قرون مديدة وإنتاج حضارة مختلفة عن جواره، هو الذي يحدد هوية الدولة-الأمّة. وتجدر الملاحظة أن التنظيم الاجتماعي القائم على أساس وجود شعب على أرض محددة، لم يظهر قبل القرن السابع عشر، لذلك كل حديث عن دول قومية قبل هذا التاريخ هو تناقض تاريخي (historical anachronism). من هنا أتى مشروع أنطون سعادة حاضناً لكل الفئات الإثنية والدينية المتواجدة على الأرض، بناء على مبدأ تشارك الأرض. ولأن الأرض هي الجامع، لم ينتج من تصورّه إشكاليات كالتي حصلت مع أحزاب أخرى تقدم أيديولوجيات مختلفة تنتج منها أسئلة مثل: هل المسيحيون عرب، أم أن المسلم فقط هو العربي؟ أو، هل الإثنيات الأخرى التي تعيش في العالم العربي تُعتبر عربية؟ وهل نعتبر من لا يتكلم اللغة العربية، عربياً؟
لم يفت الأوان، إنما أصبح الأمر أكثر صعوبة بعد انهيار دول سوراقيا، وحصار اقتصاد المنطقة، حيث لم يعد أحد يصغي إلا إلى تدبير أموره المعيشية
توحيد «سوراقيا» مهمة الحزب الأولى، التي من دونها لا نستطيع أن ننهض، فمبادئ سعادة «الأساسية» تتمحور حصراً حول وحدة واستقلالية الأمة السوراقية. هو سمّاها المبادئ الأساسية، أي أن لا بناء إلا على هذا الأساس، أمّا أن نقبل بتقسيمات سايكس-بيكو الطائفية، ثم نبدأ بالعمل على تنفيذ المبادئ الإصلاحية من ضمن هذه التقسيمات، فوهم وسراب، لأن تقسيمات سايكس-بيكو للهلال الخصيب تقف حائلاً أمام بناء دولة وطنية جامعة وتمنعنا من الاستقلال الحقيقي. فمهما حسنّا في لبنان الحالي مثلاً، لن نصل إلى نتيجة لأن حجم الكيان اللبناني الصغير وسلخه عن امتداده الطبيعي يمنعه من الاستقلال، وهذا تماماً هدف الغرب الاستعماري الذي يعي خطر توحيد «سوراقيا». لذلك أرى أنه لم يتم اضطهاد واغتيال أنطون سعادة بسبب مناداته بفصل الدين عن الدولة، بل بسبب إنشائه حزباً يقاتل لوحدة سورية الطبيعية. هذا ما لم تفقهه القيادات الحزبية، فأخذت تعمل ضمن نطاق الكيان اللبناني، وتنادي بتطبيق فصل الدين عن الدولة، وكأن هذه هي رسالة سعادة الأساسية. لم يقم الحزب بعدَ سعادة بأي خطوات للم شمل دول سوراقيا، لا بل أهمل العراق نهائياً، مع أنه الأكبر جغرافياً، ولم يضع أي تصور أو برنامج عملي في سبيل تفاعل إيجابي بين سوريا ولبنان، حتى وصل الأمر ببعض قيادييه الوقوف ضد وحدة سوريا ولبنان، وحين قيل لجورج عبد المسيح، رئيس الحزب السابق، أنه بقتل عدنان المالكي دُمر الحزب نهائياً في سوريا، أجاب: بقي عندنا لبنان! هل هذا جواب رئيس حزب يعي ما يقول؟ هل لبنان يوازي سوريا استراتيجياً، وسياسياً، واقتصادياً وديموغرافياً؟ وهل لبنان يوازي العراق في أهميته ومكانته بين الدول؟
واليوم، اهتمام القوميين والقيادات الحزبية منصبٌّ فقط على لبنان، أي أن الحزب لم يعد فاعلاً في العراق أو سوريا والأردن وفلسطين، ولبنان لا يستطيع أن يكون مستقلاً إذا لم يتحد مع جواره، ما يعني أن العمل الحزبي لسبعة عقود ماضية ذهب هباء، فلبنان لا يستطيع أن يكون مستقلاً إلا بإلغاء مفاعيل سايكس-بيكو. قام أنطون سعادة بجهود كبيرة وإمكانات متواضعة لنشر مشروعه في الكيان السوري بعد عقد من تقسيمه، بدءاً من عام 1930 وما بعد. مكث في سوريا سنة، وحين عاد إلى بيروت تابع زياراته إلى المناطق السورية، وانضم العديد من القوميين إلى الحزب، ثم أدخل العراق والكويت في المنظومة السوراقية عام 1947، لكن لم يتسنّ له الوقت لزيارتهما، وتقاعس الحزب بعد استشهاده عن متابعة السعي في نشر رسالته في كيانات سوراقيا، لا بل بدأ نفوذه بالانحسار حتى في المناطق التي انتشر فيها هذا الفكر.
أعزو فشل الحزب إلى عدم التزامه بمشروع سعادة التوحيدي، وتمنّعه عن بناء استراتيجيات وخطط طويلة الأمد لتوحيد كيانات سوراقيا على مراحل، من فتح حدود، وتبادل بضائع، وإنشاء عملة موحدة، والاتفاق على سياسة خارجية واحدة، وإقامة نظام دفاع مشترك، والاتفاق على من هو العدو، ومن هو الصديق. هذا هو المشروع الذي من أجله بنى سعادة المؤسسة الحزبية، وعبّر سعادة بصراحة تامة أنه مستعد لحل الحزب إن هو خرج عن أهدافه.
لولا استشراف أنطون سعادة لمجريات الأحداث قبل قرن من الزمن، وصوابية رؤيته، ولولا كونه الوحيد بين جميع المفكرين السياسيين والاجتماعيين الذي صمم مشروعاً نابعاً من أرض سوراقيا، وليس مستعاراً من أي أيديولوجيات غربية، لما صمد الحزب. ولسخرية القدر، بدلاً من أن تكون المؤسسة الحزبية هي الرافعة لمشروع سعادة كما أرادها، أصبح الحزب يعتاش من النظرية الفذة والمبتكرة التي قدمها سعادة، والتي هي ملك كل أبناء شعب سوراقيا.
ما العمل؟
الحل الوحيد ليس بإلقاء المحاضرات كما أفعل الآن، إنما في بناء مواطن سوراقي، وهذا لا يحصل إلا ببناء مدارس قومية في أرجاء كيانات سوراقيا بدلاً من تأليه السلطة. والنتائج ستكون مبهرة لو فعل ذلك القوميون، لأن لا أحد كان سيعترضهم على بناء مدارس بدلاً من التنطح على السلطة. لو فعلوا ذلك لكانوا غيروا التاريخ، وأمامنا مثال ساطع وواضح: انظروا إلى تركيا أتاتورك العلمانية، أين أصبحت اليوم؟ ومن الذي غيّرها؟ أليست مدارس غولن الإسلامية هي التي نقلتها من ضفة إلى ضفة معاكسة؟ لو وضع الحزب ماله وجهده في إقامة مدارس ابتدائية سوراقية، لكان بنى جيلاً يؤمن بالوحدة ويعمل لها، ولكان الشعب قد أصبح مصدر السلطات كما أراده سعادة.
حين أسس سعادة الحزب أسسه كمدرسة تهدف إلى التغيير على الأصعدة كافة، من قومية واجتماعية واقتصادية ونفسية. فهو أشاد مؤسسة هدفها الثورة على كل تقاليد بلاده البالية: من حرية فكر مطلقة في البيت وخارج البيت، ومن رفض قمع الأهل لأولادهم، وقهرهم لأحلامهم. من حرية المرأة ومساواتها مع الرجل في كل المهام، والمطالبة بحرية الفلاحين من نير الإقطاع، وتحرير «رعايا» الأديان من رجال الدين، والتعامل معهم كمواطنين لهم كل الحق في تقرير مصيرهم، والفصل فصلاً تاماً بين الدين والدولة، وبناء مبدأ المواطنة الذي يلغي الفروقات المجتمعية، ويساوي بين الجميع بمعزل عن إثنيتهم ومللهم الدينية. وكل ذلك لا يستقيم من دون ترسيخ الدولة السوراقية، لأنها وحدها قادرة على تطبيق هذا البرنامج. لقد قسمت سايكس بيكو المنطقة من أجل أن تكون الكيانات ضعيفة وعاجزة عن الاستقلال. فلو قبلنا جدلاً بفصل الدين عن الدولة في لبنان، هل ينفعنا ذلك بشيء، فيما نحن فاقدون لاستقلالنا الذاتي، ويديرنا الأجنبي كما تشاء مصالحه؟ وفي حال وضعنا قوانين مدنية، ماذا ستفيدنا ونحن تحت نير العبودية؟ وكيف نستقل اقتصادياً، ولا إمكانات عندنا إلا بالتكامل والتضامن مع البر الذي يجاورنا؟ ولماذا ترفض الولايات المتحدة الأميركية رفضاً قاطعاً أن يتم التواصل بين سوريا ولبنان والعراق والأردن؟ أليس لأن ذلك يوصلنا إلى التحرر الحقيقي؟
لسوء الحظ، هذه المدرسة الثورية التي استقطبت أحلام الجيل الشاب في ربوعنا السوراقية، انطفأت مع غياب سعادة. ومن المؤلم بالنسبة لي، رؤية القيادات الحزبية وقد تنازلت عن هذه المدرسة الثورية، لا بل قمعتها وشردتها وأقصتها من صفوف الحزب، وتمسكت بالتقاليد والممارسات البالية، المدمرة التي أتى سعادة من أجل تغييرها.
لم يفت الأوان، إنما أصبح الأمر أكثر صعوبة بعد انهيار دول سوراقيا، وحصار اقتصاد المنطقة، حيث لم يعد أحد يصغي إلا إلى تدبير أموره المعيشية. ومن المحزن أن نرى مشروع سعادة الذي تبين أنه الوحيد الذي يستطيع إنقاذ المنطقة، وباعتراف قياديين ميدانيين كجورج حبش ووديع حداد وأنيس النقاش، قد تنازل عنه الحزب وأصبح همّه وغمّه إيصال نائب من هنا، وآخر من هناك، في هذه الدويلة أو تلك، ويعتبر ذلك انتصاراً مبيناً.
التحدي المطروح علينا هو كيف نعيد اللحمة بين كيانات سوراقيا. هذا التباعد لم يكن موجوداً في حياة سعادة القريبة من وضع ما قبل تقسيمات سايكس-بيكو، حيث يتداخل السوري واللبناني والعراقي والفلسطيني في تداول السلطة في هذه البلدان من دون تفرقة أو تمييز بين دولة وأخرى! هذه الأكثرية من السكان المندمجة مع بعضها اختفت، وتحولت إلى أقلية بالكاد يسمع صوتها، لذلك مسؤوليتنا تحتم علينا إيجاد الخطوات المناسبة لبناء أكثرية تطالب بفتح الحدود، والتبادل التجاري الحر في ما بينها، ومواجهة إجراءات الولايات المتحدة التي تطالب بفتح الحدود في العالم قاطبة من أجل العولمة، لكنها تمنعنا من فتح حدودنا مع جيراننا؛ هذه الحدود التي لم تكن أصلاً موجودة قبل قرن من الزمن.
* أستاذة جامعية