كتب د. ميلاد السبعلي – الحوارنيوز خاص
لا شك أن الضربات التي وجهها نتنياهو الى المقاومة في لبنان، كانت ضربات موجعة على عدة مستويات. وقد استغل التطور التكنولوجي النوعي والدعم الدولي له، وعدم وجود رادع، بعد أن شاهد بأم العين، انعدام الوزن الأميركي، ورتابة الموقف الإيراني في الأمم المتحدة، ما دفعه لاغتيال السيد حسن نصرالله، بعد سلسلة من الضربات المباشرة، ظناً منه أنها فرصة تاريخية يستطيع فيها قطع رأس المقاومة وتغيير وجه المنطقة. كل ذلك، أعطاه جرعة كبيرة من الشعور بالقوة الزائدة. مما أفسح في المجال لظهور الأوهام التوراتية والغطرسة في تصريحات عديدة، تنبئ عما يخبئه ويسعى الى تحقيقه عتاة المشروع اليهودي وداعميهم.
** الخلفية التاريخية:
– الحركة الصهيونية منذ نشوئها شيعت فكرة “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”، معتبرين أن فلسطين لا شعب فيها، على اعتبار العرب هم بدو رحل، يمكن ترحيلهم الى الدول العربية المجاورة، وبالتالي يمكن حل مشكلة الكره الغربي لليهود وقتها، من خلال إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، كما ورد في وعد بلفور. مع أن هذا الوعد المشؤوم أضاف: “على أن يكون مفهوماً بجلاء أنه لن يُسمح بأي شيء قد يضر بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين، أو بالحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”!!
– منذ 1948 كتب بن غوريون في مذكراته: “يجب أن نفعل كل ما في وسعنا لضمان عدم عودة الفلسطينيين أبدا… سوف يموت القديم، وسينسى الشباب”.
– في عام 2018 أقر الكنيست قانون “الدولة القومية للشعب اليهودي” الذي ينص على أن تقرير المصير الوطني في فلسطين هو حصراً حق “للشعب اليهودي”، وهو وغير قابل للتصرف، وأن “الدولة تنظر إلى تطوير الاستيطان اليهودي على أنه قيمة وطنية، وتعمل على تشجيعه وتعزيزه”. وبالتالي أصبح لزاماً تنظيف كامل فلسطين من غير اليهود، فكانت أفكار تهجير فلسطينيي غزة الى الضفة، وفلسطينيي الضفة الى شرق نهر الأردن، وفلسطينيي الجليل الى جنوب لبنان. ويجب بالتالي تهيئة الأجواء لذلك، فتقبض مصر ثمن استضافة أهل غزة في سيناء، ويقبل الأردن بفلسطينيي الضفة اذا كان الملك يريد أن يحافظ على ملكه. ويفرّغ جنوب لبنان من الشيعة لاستبدالهم بفلسطينيي الجليل.
– في 19 آذار 2023 قام وزير المالية والوزير في وزارة الأمن الإسرائيلية وعضو “الكابينت” الأمني بتسلئيل سموتريتش بعرض خارطة “أرض إسرائيل الكبرى” خلال محاضرة ألقاها في باريس، أنكر فيها وجود شعب فلسطيني واعتبره “بدعة تمّ اختراعها قبل مئة عام لمحاربة المشروع الصهيوني في أرض إسرائيل”.
– أثناء حديثه أمام الدورة 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر 2023، حمل نتنياهو معه خريطة وضعت الضفة الغربية وقطاع غزة داخل “حدود إسرائيل السيادية”.
– في 18 يناير 2024 رفض نتنياهو فكرة إقامة دولة فلسطينية، مدعيا أنها “ستعرض دولة إسرائيل للخطر”. وشدد على أنه “في المستقبل، يجب على دولة إسرائيل السيطرة على المنطقة بأكملها من النهر إلى البحر”.
– المؤرخ الإسرائيلي إيان بابيه مدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في جامعة إكسيتر: “حل الدولتين “ميت” قبل العقد الأخير، إن لم يكن ولد ميتا، فبقدوم أرييل شارون للحكم بداية العقد المنصرم، بدأ التنفيذ التفصيلي لمخطط “الدولة اليهودية” على كامل الأرض الواقعة بين البحر والنهر”.
** التصريحات الجديدة بعد النشوة: التوسّع العسكري والاقتصادي
– أكد نتنياهو مؤخراً نظرته للحروب المتوالية التي يقودها على أنها “قيامة -بعث- ستؤدي بنهاية المطاف إلى القضاء” على الخصوم، وبناء “إسرائيل الكبرى”.
– المرشح الرئاسي الأميركي والرئيس السابق دونالد ترامب، قال في 15 أغسطس/ آب الجاري، خلال لقائه مع مجموعات يهودية شكّلت تحالفاً لدعمه في الانتخابات الرئاسية “عندما تنظرون إلى خريطة الشرق الأوسط، تجدون أن إسرائيل بقعة صغيرة جداً مقارنة بهذه الكتلة العملاقة من اليابسة المحيطة بها. لذلك تساءلتُ: هل ثمّة طريقة للحصول على مزيد من المساحة؟”
– عاموس يدلين “رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الاسبق”: لن نسمح بتواجد جيش على حدودنا الا بالمعايير التي وضعناها للجيش المصري والجيش الاردني واللذان لا يتحركان الا بأوامر صارمة من دولتنا … “
– بتسلإيل سموتريش، قال في آب 2024: “إن قتل مليوني فلسطيني بقطاع غزة جوعا قد يكون عادلا وأخلاقيا لإعادة الأسرى الإسرائيليين من القطاع”.
– في 29 أيلول 2034 الكاتب الروسي ديمتري نيفيدوف يقول في تقريره بموقع “المركز الروسي الإستراتيجي للثقافات”، أنه من أجل جعل حلم “إسرائيل الكبرى” واقعا ملموسا، فإن الهدف التالي لإسرائيل بعد لبنان سيكون سوريا. وأن “الهدف النهائي لتصرفات تل أبيب الحالية في لبنان هو إثارة حرب مع سوريا، تخدم المصالح الجماعية للولايات المتحدة والغرب من الناحية الإستراتيجية، وذلك بإسقاط نظام الأسد”. وأشار إلى أن رغبة “الصقور” الإسرائيليين في الاستيلاء على جنوب لبنان ترجع إلى نية تهديد دمشق لا فقط من الجنوب الشرقي، بل أيضا من الغرب والجنوب الغربي. وأضاف أن “السياسات التوسعية التي تنتهجها إسرائيل في لبنان والشرق الأوسط عموما كانت دائما مصدر إلهام للغرب”.
– أفادت صحيفة نيويورك تايمز في أيلول 2024 أن إدارة بايدن والعديد من الخبراء الأميركيين في منطقة الشرق الأوسط مثل دينيس روس وديفيد شنكر، يعتبرون أن النجاحات الإسرائيلية في ضرب حماس وحزب الله هي فرصة تاريخية لتغيير خريطة الشرق الأوسط برمته.
– في كلمته الأخيرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي قاطعها ممثلو الكثير من الدول، رفع نتنياهو خريطتين: منطقة النقمة، ممتدة من ايران الى العراق وسوريا ولبنان، وخريطة النعمة، تشمل الكيان اليهودي والأردن ودول الخليج ومصر والسودان.
** الوعد التوراتي
ما هي حدود “اسرائيل الكبرى”؟ هناك جملة مكتوبة على مدخل الكنيست الإسرائيلي تقول: “حدودك يا إسرائيل من النيل الى الفرات.” وهذه تعتمد على الوعد الديني المزعوم الذي أعطاه يهوه الى إبراهيم:
في سفر التكوين 15:18-21 من التوراة أو ما يعرف بالعهد القديم من “الكتاب المقدس” عند معظم الطوائف المسيحية، ورد ما يلي: في ذلِكَ اليومِ قطَعَ الرّبُّ معَ أبرامَ عَهدا قالَ: “لِنَسلِكَ أهَبُ هذِهِ الأرضَ، مِنْ نهرِ مِصْرَ إلى النَّهرِ الكبـيرِ، نهرِ الفُراتِ، وهيَ أرضُ القَينيِّينَ والقَنزِّيِّينَ والقدمُونيِّينَ والحثِّيِّينَ والفَرزِّيِّينَ والرَّفائيِّينَ 21والأموريِّينَ والكنعانيِّينَ والجِرجاشيِّينَ واليَبوسِيِّينَ”.
وعند البحث عن هذه الشعوب المذكورة، من خلال المعلومات المتوفرة عبر النت، نجد ما يلي:
- القينيون (Kenites): قبيلة قديمة، كانت تعيش في المنطقة القريبة من كنعان.
- القنزيون (Kenizzites):قبيلة غامضة نسبيًا، ولكن يعتقد أن القنزيين كانوا يسكنون في الجزء الجنوبي من كنعان، وربما كانوا من الشعوب الكنعانية القديمة.
- القدمونيون (Kadmonites): هم مجموعة أخرى من سكان المنطقة، اسمهم يعني “الشرقيون”، وقد يكونون قد سكنوا شرقي الأردن أو كنعان.
- الحثيون (Hittites): هم شعب قديم معروف عاش في شمال سورية والأناضول (تركيا الحالية) وكان لهم إمبراطورية قوية. ولكن أيضًا ذكروا كقبيلة أو شعب في كنعان في “العهد القديم”.
- الفرزيون (Perizzites): هم سكان كنعان القدماء الذين عاشوا في الأراضي المفتوحة (السهول) بدلاً من المدن المحصنة، وذُكروا عدة مرات في “العهد القديم” كشعب ضمن كنعان.
- الرفائيون (Rephaims): كانوا شعبًا يُعتبر عملاقًا أو طويل القامة، وذُكروا في “العهد القديم” كأحد “الشعوب التي كان يجب أن يهزمها بنو إسرائيل عندما دخلوا الأرض الموعودة”.
- الأموريون (Amorites): كانوا شعبًا قديمًا يعيش في سوريا وكنعان، وكان لهم دور كبير في التاريخ القديم للمنطقة. وذُكروا في “العهد القديم” كأحد “الشعوب التي واجهها بنو إسرائيل”.
- الكنعانيون (Canaanites): هم أحد الشعوب الرئيسية في المنطقة. كانوا يسكنون في كنعان، التي تشمل ما يعرف اليوم بفلسطين، لبنان، الاردن وسوريا.
- الجرجاشيون (Girgashites): كانوا إحدى قبائل الكنعانيين الذين سكنوا المنطقة. ويُعتقد أنهم كانوا يعيشون في منطقة شرق الأردن.
- اليبوسيون (Jebusites): هم شعب قديم كانوا يسكنون في أورشليم (القدس). هم من الشعوب التي “واجهها بنو إسرائيل عند دخولهم الأرض الموعودة”.
** الأوهام التوراتية المتجددة:
نرى مما تقدّم، أن الأرض التي يعتبر اليهود أن إلههم وعدهم بها كانت أرضاً مأهولة لها أصحابها. ويعتبر بعض الباحثين الدينيين، من المسيحيين والمحمديين، أن هذا الوعد، الذي لا معنى له في القانون الدولي، قد بطل بعد أن عصى اليهود الههم عدة مرات. وهذا الدفاع الديني هو أسوأ أنواع الدفاع عن حقوقنا القومية التاريخية في فلسطين، خاصة أنه يساوي بين يهوه والله.
كما أن ادعاء الحركة الصهيونية أن فلسطين هي أرض بلا شعب، قد تبين بطلانه، ابتداء من وعد بلفور المشؤوم نفسه، الى الحقائق التي واجهها المشروع اليهودي، والذي قام بكل أنواع الإبادة الجماعية على مدى قرن كامل لنفي وجود شيء اسمه الشعب الفلسطيني، والذي أنكر وجوده سموتريتش، تثبت أن الأرض لم تكن بلا شعب.
وبرغم كل ذلك، عدنا نسمع، ونقرأ، عن تصريحات تستعيد أوهام التوراة ببناء “إسرائيل الكبرى”، بعد نشوة الضربات التي قامت بها إسرائيل، والتي نالت إعجاب الغرب، حتى الذين كانوا متحفظين عليها في البداية، وفتحت شهية إعادة تشكيل شرق أوسط جديد، كانوا قد حاولوا تشكيله في السابق، وفشلوا.
الآن، تطرح مراكز الأبحاث المتأثرة بالزهو والأوهام التوراتية، الخطة التالية، التي تكشفت لنا من الأبحاث والنقاشات مع عدد من المطلعين في الغرب والعالم العربي، لبناء “إسرائيل الكبرى” مجدداً، كما ذكر نتنياهو، على مراحل:
1- تهجير الفلسطينيين الى سيناء وشرق الأردن وجنوب لبنان، بعد تفريغه من سكانه، الذين هم بأكثريتهم من الشيعة، وبالتالي يشكلون برأيه بيئة حاضنة للذراع الإيرانية، ويشكلون خطراً على إسرائيل، فيما هي تريد جيوشاً كالتي وصفها رئيس المخابرات السابق، في الأردن ومصر، لا تتحرك الا بتعليمات صارمة من الدولة اليهودية. وهذه الخطة تحظى بتأييد من المتطرفين في الغرب، لأسباب دينية واستعمارية. وبالتالي رفض أي فكرة للاعتراف بدولة فلسطينية، مهما كان شكلها وحدودها.
2- تهجير شيعة لبنان الى العراق، وتحديداً الى شرق الفرات، في المناطق الشيعية في الشرق والجنوب العراقي. وهذه خطة ترتكز الى اللعب بالديموغرافيا كما كانت تخطط الحركة الصهيونية منذ بداياتها.
3- الوصول الى أقرب نقطة من الفرات، والتي تقع على مدينة البوكمال في الشام. وهذا يتطلب إعادة دعم المسلحين السوريين في درعا، وتشجيع السويداء على الانفصال، مع حلم إقامة نوع من أنواع الحكم الذاتي الدرزي من جبل العرب الى جبل لبنان مروراً بحوران وراشيا وحاصبيا وبعض الجولان. وبعد ذلك، يلاقي الاسرائيليون الأميركان في قاعدة التنف، ومن ثم ينتشرون في شرق البادية الشامية على طول الحدود الشامية العراقية من التنف الى البوكمال. وبذلك يقدمون للغرب خدمة قطع خط التموين من ايران الى لبنان عبر البر. وهذا أيضاً يجعلهم جيران للأكراد في شرق الفرات في الشام، مما يشجع هؤلاء على الانفصال وتشكيل دويلة خاصة بهم أو الالتحاق بكردستان العراق. وبذلك يتولى الإسرائيليون أيضاً مهمة الفصل بين منطقة النقمة ومنطقة النعمة، لحماية الأخيرة، معتقدين أن ذلك يستجلب تأييداً، ولو غير معلن، من العرب والغرب، ويعطي إسرائيل وظيفة جديدة في المنطقة.
4- بعد ذلك، يأتي تتويج المشروع، من خلال السيطرة الأمنية والاقتصادية، كونهم لا يمتلكون الديمغرافيا الكافية، على ما تبقى من أراضي في “اسرائيلهم الكبرى” المزعومة، من خلال تطويع ما تبقى من لبنان، وما تبقى من الشام وغرب وجنوب غرب العراق، والأردن، والكويت وشمال السعودية حتى خيبر ومشارف المدينة المنورة، مع ما لخيبر من مكانة في ذاكرتهم التاريخية.
لا شك أن هذه الأوهام دونها الكثير من العقبات، وهم بالكاد يستطيعون السيطرة على بعض قرى جنوب لبنان الحدودية. ولكن من الضرورة نشر الوعي حول هكذا خطط وأوهام، لنستطيع وضع الخطط المناسبة لمواجهتها. وكي لا نتأثر بالدعوات الى السلام الموهوم والازدهار الخلبي الذي يعد به نتنياهو شعبنا في لبنان أو كامل الهلال الخصيب، فيما لو خنع وأزال عناصر قوته. ويلاقي هذا الطرح، تأييداً من الكثير من السياسيين والاعلاميين والعملاء، الذين لا قيمة لهم، والباحثين عن دور لهم، في هذا الشرق أوسط الجديد الذي يعمل عليه الغرب ونتنياهو، ومن الكثير من الأنظمة العربية، التائقة الى السير وراء وعود نتناهو المسمومة بمنطقة النعمة، بحجة عدم القدرة على مواجهة المخططات الدولية، فيما هي لن تسلم من هكذا خطط وهمية وجنونية.
وقد حاولت إسرائيل والغرب تحقيق الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به كونداليسا رايس خلال حرب تموز 2006، وبعد سقوط العراق في 2003. لكن المخطط فشل يومها. فكان لا بد من المزيد من إضعاف المنطقة، وتهيئة شروط نجاحة. فقاموا خلال ما سمّي بالربيع العربي بتدمير سورية على مدى عقد كامل من الزمن، وتعزيز العداء العربي لإيران، وعادوا اليوم يحاولون تحقيقه من جديد، وبحلة جديدة. وتبقى في نهاية المطاف، الكلمة الفصل في نجاحهم أو فشلهم الى ما يقرره الميدان في الأيام والليالي والشهور القادمة، ووعي شعبنا لما يخطط له.