أوهام البشر في محاكاة القدر(نسيم الخوري)
د. نسيم الخوري – الحوار نيوز
تسحبنا الأجيال الطريّة الخارقة الذكاء إلى الإقرار بأن التكنولوجيا الرقمية باتت القوةً المعاصرة التي جعلت البشرية تبحث عن هويتها عبر حقول وموجاتٍ لا متناهية من الذكاء الإصطناعي ليدخل العالم في خرم إبرة.
ورحنا نشهد محاورات الآباء والأجداد في السياسات والعلوم والكشوفات والتراث والتاريخ والأديان والأمراض..ألخ، مع الأجيال الفتيّة الشابّة الجديدة اللافتة إذ تبدو بعيدة تتحرّر من الأفكار التقليدية والأحكام المسبقة عبر المشاهد أو المجتمعات الرقمية التي يُقيمون فيها عبر الفضاء. هؤلاء الصبية الذين ينهرهم الأهل أو يحاولون تنظيم عيشهم أو لهوهم في العصر الرقمي ليسوا مجبرين على التجاور الجسدي لتوفير ظروف صداقاتهم وأفكارهم وأحلامهم بما يجعلهم متعاضدين يتجاوزون حركة الفئران MOUSE فيلعبون ويسألون ويكتشفون ويخترعون ويشعرون بتقاربهم وتفوّقهم وذكائهم الخارق ويسعدهم تجاوز محيطهم التقليدي وغالباً ما تراهم يضحكون كما البرق خفيةً في ردود أفعالٍ ظريفة على أسئلة الأهل والمعلمين وانتقاداتهم ومواعظهم ومزاعمهم.
ماذا حصل؟؟؟
تدفقت الأفكار والفلسفات الحديثة التي تحاول مصالحة الانسان مع التكنولوجيا بعدما حوّلته إنساناً رقمياً يعيش في مجتمع له صفات جديدة متعددة. إنّه مجتمع ما بعد الصناعة أو المجتمع الثالث أو ما بعد الحداثة تقوده المعلومات عبر الكومبيوتر وثورة الالكترونيات عنوانه عصر اقتصاد المعرفة. إنّه المجتمع العالمي حيث انهيار الأرقام وسحقها وهندسة المعرفة والمنزل الذكي Smart Home والمدن الآلية Computerized Cities والمقاهي الإلكترونية Electronic Café، وطرق المعلومات السريعة وصناعة الأخلاق Ethics Industry. هو مجتمع التكنولوجيا حيث الأرقام والرموز بأنواعها مع الصوت والنص والصورة، مع المكتوب والمنطوق، مع المحسوس وغير المحسوس، مع العقل والأسرار البيولوجية الدفينة النفسية منها، الوهمية والممكنة. وتنتشر آلات هذه المعلومات من أدوات المطابخ إلى المفاعلات الذرية. إنّها صناعات تسعى لإقامة عوالم مصطنعة مركبة وغير واقعية تبدو التكنولوجيا فيها مثل الماء والغذاء والهواء. بلغت أوهام البشر الجنون في محاكاة القدر.
أفضت برامج الذكاء الإصطناعي المتدفّقة إلى أنشطة قادرة على التحرّر من “عبودية” الجسد، لتتمكن الآلات الدقيقة من وضع تصاميمها وبرمجتها وإعادة تصويبها وبنائها في منافستها للعقل البشري مزوّدة بالتفوق على قوته للحلول مكانه في مرحلة ثانية. هذا يعني ببساطة ابتكار آلات فائقة الذكاء قادرة على إنتاج ذاتها بذاتها إلى ما لا نهاية وفق ظاهرة التصغير أو ما كان يُعرف ب”علم النانوتكنولوجيا”، وهو فرع طليعي من التقنيات يُستعمل أساساً في الإلكترونيات وصناعة الطائرات والسيارات، ويهتمّ بأبعاد الجزئيات أو الذرات وتفاوتها المسموح به أي واحد من مليون من المليمتر حيث يتكفّل الذكاء المصنّع بتجميعها هيدروجينياً أو كيمياوياً ما أن تجعلها الحركات الحرارية تحتك ببعضها البعض.
تستند تلك العلوم على كشف المهارات التي تختزنها جزئيات المواد، استناداً إلى علوم الكيمياء والفيزياء والهندسة لتصنيع آلات تصنّع بدورها آلاتٍ أصغرحجماً وأدقّ برمجةً منها، كلّ هذا بإدارة سلطة السلطات أعني به الكومبيوتر. إننا أمام إدارة علم الذرات التي روّجت للذكاء الإصطناعي، وبتنا نشهد معه خطىً سريعة نحو الآلات التي تعيد إنتاج ذاتها إلى ما لا نهاية. هذا يعني بكلمتين، إيجاد أجهزة كومبيوتر لا تتجاوز الواحد من الألف من المليمتر إذ بلغت الحواسيب حجم الخلية الانسانية يتمّ زرعها في الأجسام أو الأدمغة والأمكنة الدقيقة للتحكم بها من بعد.
هنا سؤال: هل تترك هذه الابتكارات متغيرات أو تحولات كبرى في قدرات الإنسان؟ من الصعب التكهّن كيف ستكون مواصفات أدمغة إنساننا الآتي إن كان سيختلف عنّا كثيراً. هناك دراسات ترى بأنّ الأطفال الذين يرون أفلام اليوم أو البرامج القصيرة التي تعبر عن اللحظات السريعة التي أدرجها الأميركيون أساساً عبر المقابلات الإعلامية القصيرة جداً والتي لا تتعدّى الدقيقة أحياناً، ثم طغيان الاستغراق في دنيا الألعاب الالكترونية خلق منهم أصحاب مهارات بل قدرات علمية أكبر من قدراتنا تسمح لهم بالتدرّب على تنمية مبكرة لطاقات فائقة القوة والسرعة لم نشهدها وتسمح لهم باستيعاب تعقيدات المسائل المعقّدة المتعددة.
قد يعتبر البعض الذكاء الإصطناعي نوعاً من الهرطقات العلميّة، باعتباره مسألة طبيعية كان يستحيل تصنيعها، ولأن المخ لا يحاكى أو يُقلَّد بالنسبة للبيولوجيين. وقد يعترض اللغويون أيضاً على امكانيات محاكاة السلوك اللغوي الزاخر بملكات ذهنية ونفسية يصعب تفسيرها، أو يقول علماء النفس بعدم جواز فصل المعرفة واللغة عن المشاعر، لكنّ علماء الذكاء الإصطناعي يُقرّون بأنه ليس سوى آلات تكرارية تُعيد ما سبق وتمّ تلقيمها أو برمجتها به، ولا يمكنها من استحداث معلومات جديدة، لكن بالرغم من هذه الاعتراضات كلها، يتابع مهندسو الذكاء الإصطناعي التأكيد على قناعاتهم بأن هناك نموذجاً محدداً ولغة حاسوبية لكل نشاط معرفي استناداً إلى وظائف الدماغ البشري. ويستندون في ذلك، إلى أمثلة حسية منها الأنظمة الآلية القادرة على تشخيص الأمراض، وآليات لعبة الشطرنج التي هزمت فطاحل اللاعبين المحترفين، إلى تحديد الثروات الجيولوجية، ومحاولات النقل والترجمات الآلية بين الانكليزية وغيرها ولغات أخرى إلى أعداد وبرامج من النظم والنظريات الرياضية التي جعلت الشخصية البشرية في حالة قصور وضمور وانهيار قبل أن تتكلم أو تعلم إذ تسبقها الآلات الدقيقة لإثبات ما عجزت عنه معظم الوسائل التقليديّة.