د. وجيه فانوس – الحوارنيوز- خاص
قد لا يكون من أهميّة أساس لأيّ قانون انتخابيّ نيابيّ، يجري اعتماده، حاليّا، في لبنان؛ بقدر الأهميّة الأصل، للثّقافة الانتخابيّة النّيابيّة، التي يحوزها المواطن في هذا البلد، ممارسًا حقّه الانتخابيّ عبر هذا القانون. واقع الحال، لا يمكن النّظر الجوهريّ والعمليّ إلى أيّ قانون كان، سوى أنّه مجرّد أداة؛ وبناء على هذا، فإنّ الفاعليّة العمليّة لأيّ أداة، ترتبط، حُكْمًا، بمن يستخدم هذه الأداة؛ باعتبار وعيه وإدراكه وخبرته، ونتيجة ما لديه من دربة؛ وبتعبير شامل، إنّها ترتبط بثقافة هذا المستخدم. ولطالما ردّد اللّبنانيّون في مجالسهم، القول الشّعبيّ، الذي مفاده أنّ “الفَرَسَ مِن وَراءِ الفارس”؛ وفي هذا تأكيد مفهوميّ عملانيّ على أساسيّة مسؤوليّة الخبرة الثّقافيّة وأوّلويّتها في مجالات استخدام الأداة؛ أي بما يجعل للأداة ارتباطا عضويًّا وعمليًّا جليًّا بثقافة مستخدمها وخبرته.
يشهد تاريخ الانتخابات النّيابيّة في لبنان، عبر عقود عمر الجمهوريّة اللّبنانيّة وسنوات عيشها، منذ اعتماد القانون الانتخابيّ النّيابيّ الأوّل، الصادر بالقرار رقم 143، في 8 آذار سنة 1922، عن روبير دي كه، وكيل المندوب السّامي الفرنسي، آنئذٍ؛ مرورًا بالقانون الانتخابيّ، الأكثر شهرة، الصّادر سنة 1960؛ وما سبقه ولحق به من تنويعات وتعديلات كثيرة، في سنوات 1950 و1952 و1957 و1992 و1996 و 2000 و2005 و2008، وصولاً إلى التّشكَل الأخير للقانون الانتخابيّ النّيابيّ سنة 2017، أكان لجهة تحديد عدد النّوّاب أو تعيين مبادئ تمثيلهم النّيابي، أو وفاقًا لاعتماد المناطق أو سبل الاحتساب العددي للنّاخبين، أو كان، كذلك، باعتماد مناهج الانبناء التّكوينيّ لإنشاء التّحالفات الانتخابيّة، ناهيك بتحديد مجالات رؤية تلاقي المصالح الظّرفيّة للمعركة الانتخابيّة. ويثبت الواقع المعيش، طوال تلك العقود والسّنوات، أنْ قلّ أنْ حادت نتائج هذه الانتخابات عن مصالح جماعات المتزعّمين الطّائفيين والمناطقيّين، أو انّها انحرفت عن سبيل أغراض جماعة المتموّلين المحليّين أو الدّوليين، على حدّ سواء.
يبيّن الفحص التّاريخيّ والمضمونيّ، للتّوجّهات الثّقافيّة في مجالات الانتخابات النّيابيّة، لدى غالبيّة اللّبنانيين، أنّها تنبثق من جوهر سعيهم إلى الانتخاب، عبر جميع القوانين التي وضعت، ومن خلال كل ما ألحق بها من تعديلات أو إضافات، على أساس يكاد ينحصر فيما يرونه من ارتباط دينيّ ومذهبيّ بالمرشّحين إلى النّيابة؛ فضلا عن ما يعتقدونه، كذلك، من تعصّب إلى انتماء مناطقيّ يتجلّى في انتقاء لمرشّح من دون سواه؛ أو تنشأ عن ما قد يتوقّعونه من نتائج وعد شخصيّ تلقّوه من مرشّح بحدّ ذاته، أو تّواصل مصلحيّ مباشر أقاموه معه؛ كما قد تحصل، جرّاء مكافأة ماليّة مرتقبة، يأملون نيلها نتيجة منح أصواتهم الانتخابيّة لجهة معيّنة أو مرشّح محدّد.
يمكن القول، تاليا، إنّ الارتقاء النّوعيّ بالعمليّة الانتخابيّة النّيابيّة، في سبيل بناء وطنيّ جامع ومتماسك، قد لا يرتبط فعلا بقانون انتخابيّ؛ بقدر ما يرتبط بالثّقافة الانتخابيّة لكلّ ناخب. وهنا، يبرز تساؤل شديد الواقعيّة، فحواه أن كيف يمكن تغيير ثقافة انتخابيّة، ما برحت قائمة وراسخة وفاعلة، طيلة قرن كامل من الزّمن؛ في وقت قد لا يتجاوز عدد أشهره أصابع اليد الواحدة؟ وكيف يمكن أن يتحوّل، ضمن هذا التّغيير المرتقب، مقياس التّفضيل الانتخابيّ، من مفهومه الدّيني والمذهبيّ والمناطقيّ والشّخصانيّ البحت؛ إلى مقياس يراعي الوجود الوطنيّ المشترك. إنّه المقياس الذي يكون السّعي عبره إلى تحقيق المصلحة الوطنيّة الواحدة، وتأكيد أولويّة المواطنة في العيش، ودعم فاعليّة التّلاقي الوطنيّ؛ في وجه أيّ فاعليّة دينيّة أو مذهبيّة أو مناطقيّة أو مصلحيّة ضيّقة ممكنة. ومتى يمكن، برؤية عملِيّة رمزيّة، وتعبير إعلاميّ واضح، تنفيذ الصّدر الأوّل من النّشيد الوطنيّ، “كُلّنا للوطن”، المعتمد رسميّا في لبنان منذ 27 تمّوز (يوليو) سنة 1927؛ والذي ما انفكّ اللّبنانيّون يصدحون بإنشادهم لكلماته رسميّا، مع كلّ صباح ومع افتتاحهم كلّ احتفال رسميّ كان أو شعبيّ يقومون به؛ وهم، في كثير من واقع ثقافتهم الانتخابيّة، لا يمارسون مفهوم ثقافة “كلّنا للوطن” هذه؛ بقدر ما هم يمارسون، ما قد يمكن اعتباره، ثقافة “لكل منّا ما يقدر عليه من الوطن”!
لا يمكن اعتبار أنّ أيّ تغيير في مجالات الثّقافة قد يكون، رغم ما ينهض عليه من صعوبات، مستحيلا على الإطلاق؛ ولقد أكّدت الدّراسات العلميّة المعاصرة، إمكانيّة حصول هذا التّغيير؛ لكن شريطة وافتراض هدف يسعى إليه وتعيينه، وتهيئة ظروف محيطة قادرة على تحفيز هذا الهدف؛ ويبقى، تاليا، الاهتمام العلميّ الموضوعيّ بتحديد أدوات التّنفيذ في مجالات هذا التّغيير. لقد تحدّد وجود لبنان، بناء على الدّستور اللبناني، منذ سنة 1926 وحتّى اللّحظة، ليكون دولة طائفيّة، ولو بصورة مؤقّتة طويلة الأمد، ما انفكّ النّظام اللّبنانيّ يلتزم مفاهيمها، ويعمل بقواعدها، ويستوعب نتائجها، منذ ما يناهز قرنا من الزّمن. لقد أسّس هذا الحال، وبكلّ عملانيّة واضحة ومثبتة بالممارسة، لعدّة مفاهيم وقيم وحقائق، تعتبر مسؤولة عن حال هذا البؤس الوطنيّ المزري، الذي يعاينه اللّبنانيّون اليوم؛ وكذلك عن مستوى الضّعف العام الذي يعانون منه، وأيضا عن خوضهم الجمعيّ القاتل في لجج التَشَتّت الاقتصاديّ والتّحلّل السّياسيّ والتّفسّخ الإداري، ناهيك بالعمى الرّؤيوي الهدّام الذي وصلوا إليه. إنّها المحصّلة المخزية لثقافة السّعيّ إلى تحقيق المطالب المرتبطة بكلّ طائفة، بل بكلّ واحد من مذاهب الطّائفة؛ والمتعلّقة، كذلك، بكلّ بقعة من مناطق عيش ناس الطّائفة؛ ومن هنا، كان التّراجع العملانيّ لمقولة “كلّنا للوطن”، أمام مفهوم “لكلّ منّا ما يقدر عليه من الوطن”!
من الحقّ، ههنا، عدم التّعويل الفعليّ على أيّ تغيّر وطنيّ ممكن الحصول، جرّاء اعتماد أيّ قانون انتخابيّ نيابيّ كان؛ ونتيجة أيّ انتخابات نيابيّة، قد تحصل في المدى المنظور. يحتاج الأمر، واقعا، إلى وقفة هادئة، هي مسؤوليّة ناس الوطن جميعا؛ وخاصّة أهل الرّأي والرّؤيا منهم، وعلى رأسهم جميع المنادين بالخلاص الفعليّ للبنان ممّا يهيم فيهِ شعبه من مهاوٍ للخراب ومساحاتٍ للفساد وصحاري ضياع المسؤوليّة. ينهض العمل الجديّ على إنشاء ثقافة انتخابيّة نيابيّة وطنيّة، انطلاقا من تحديد أنّ نهضة الوطن، هي الغاية الأساس من هذه الثّقافة، وسبيلها تعزيز وجوده الوطنيّ الجامع لناسه، وتخليصه من كلّ ما يعيق مسيرتهم من شوائب البؤس والتّحلّل والتّفسخ ومزالق الانهيار ومسبّبات الإفلاس والضّياع.
إنّ في هذا ما يعني أنّ الوطن، بكليّته، لا يمكن أن يستمرّ ضمن هذه السّياقات الطّائفيّة المؤقتّة، التي نصّ عليها الدستور الوطنيّ؛ وبات من المحتّم الوطنيّ، في الوقت عينه، القيام بالتّنفيذ الفوريّ لما ينصّ عليه الدّستور اللّبناني الحاليّ، من إلغاء لـ”الطّائفيّة”، مبدأ للعيش بين اللّبنانيين؛ واعتماد “المواطنة”، تاليا، أساساً للعيش الوطنيّ، وجامعا عضويّا فعليّا بين اللّبنانيين كافّة. يبقى، أن تستنفر مؤسّسات الوطن، رسميّة وأهليّة، وعلى رأسها وزارتي التّربية والثّقافة، للعمل الجادّ والرّصين، ضمن خطّة تنفيذ زمنيّة محدّدة الأوقات ومنسّقة الخطوات، على وضع عناصر “ثقافة المواطنة”، وتعيين سبل تنفيذها، تربويّا وتعليميّا واجتماعيّا؛ بالتّعاون مع أهل الاختصاص، من ذوي الإيمان الحقيقيّ العمليّ بمبدأ “المواطنة”، لآفاق الرّؤى الاقتصاديّة والسّياسيّة النّاجمة عنها والمؤدّية إليها والمعزّزة لها.
ولئن كان هذا الأمر يتطلّب الغوص في انشغالات وطنيّة وتربويّة وثقافيّة وتعليميّة لسنين مقبلة، فإنّه يبقى، بإمكانيّة السّيطرة الحازمة على مساره الزَّمنيّ، وبجميع المعايير الوطنيّة الحقّة، البديل الأفضل من أيّ قانون انتخابيّ نيابيّ، تطبّقه جماعات ثقافة “لكلّ منّا ما يقدر عليه من الوطن”؛ تاركة الصّدر الأوّل من النّشيد الوطنيّ اللّبنانيّ، مجرّد صوت يتيم صارخ في بريّة لبنان؛ لم يجد، منذ قرن من الزّمن، من يعي مقوله أو يسترشد بهديه.
*رئيس ندوة العمل الوطني – لبنان
زر الذهاب إلى الأعلى