الحوار نيوز – المحرر الثقافي
يندرج الكتاب الجديد للزميل أنطوان سلامه “عاميّة ١٩٠٢” في سياق القصة القصيرة التي يميل الكاتب الى اعتمادها في اصداراته الأخيرة، من “مرايا مغلقة” الى ” عاميّة ١٩٠٢” مرورا ب “قوّاص البطريرك”.
وإذا كانت عناوين هذه الكتب جذابة، كأن يتساءل القارئ، هل للبطريرك قوّاص، أي مرافق مسلح، فيكتشف في كتابه أنّ القوّاص وظيفة تكمن في نقل البريد، وكانت رائجة ماضيا، في القنصليات الأجنبية في بيروت، والصروح الدينية والزمنية كوزارة الخارجية.
ويجذب عنوان ” عاميّة ١٩٠٢” القارئ الذي يدرك أنّه في هذه السنة لم يُعرف أن حدثت عاميّة شعبية كما عاميّات انطلياس(١٨٢٠) ولحفد (١٨٢١) وعاميّة انطلياس الثانية(١٨٤٠)… ولا تكمن المفاجأة في القاء الضوء على عاميّة شعبية جديدة، بل في سبب انطلاق هذه العاميّة في زوق مكايل- قضاء كسروان الذي اشتهر فلاحوه بثورتهم ضدّ الاقطاع الخازني(١٨٥٨-١٨٦٠).
يتضح أن سبب اندلاع عاميّة ١٩٠٢هو رفض الأهالي عادة دفن الموتى في حرم الكنيسة، كما كان رائجا قديما.
ففي عام ١٩٠٢ توفيت في زوق مكايل “عبدة الأحد” بنت الشيخ حنا نوفل (الخازن) بداء السلّ، وهي من القليعات (بلدة في وسط كسروان) فرفض الأهالي دفنها في داخل كنيسة مار ضوميط، كما تفرض العادات والأعراف والأوامر الأسقفية، لأنّها ليست من مشايخ البلدة، ولأنّ مرضها يُعدي.
أصرّ المشايخ على دفنها حسب ما تنصّ حقوقهم، وساندهم البطريرك (الياس الحويك) ومطران ” أبرشية الشام”(حاليا مطرانية صربا) والمتصرف الذي أمر عسكره بالدفن بالقوة.
احتجّ الأهالي فأنزلوا الصليب وجرسين عن قبة الكنيسة وامتنعوا عن دخولها .
لا يدخل أنطوان سلامه في التسميات، فتجاهل ذكر مشايخ آل الخازن، مرددا فقط “المشايخ”، وذكر اسم البطريرك فقط من دون الياس الحويك المقدّم حاليا للقداسة في الفاتيكان، واكتفى بالتلميح الى اسم زوق مكايل، وأسقط أيضا الاسم الكامل لمظفر باشا كمتصرّف.
هذا الإسقاط المتعمّد، يعود ربما، الى أنّ تفاصيل عاميّة ١٩٠٢ أشبعه الكاتب، سابقا(١٩٩٧)، درساً وتنقيباً في كتابه ” زوق مكايل: أزمنة الحضور في تاريخ لبنان” في فصل كامل(الجزء الأول-الفصل الثالث) يتضمّن وثائق تاريخية مهمة.
ويعود أيضا لشخصيات القصة التي يروي الكاتب من خلالها مسار العاميّة، وعبر شخصية رئيسية أو بطلة هي مرغريت “الكتومة” التي قصدها “الشيخ يوسف” ليعرف منها المكان الذي رمى فيه الأهالي “بلاطات” مدافن الكنيسة (الشواهد أو الحجريات)، لكنّها أخفت السر.
حول هذا الكتمان تدور القصة بتشويق سرديّ، وأسلوب سلس، يمزج بين المحكية والفصحى في لغة عربية سليمة.
كتمت مرغريت المكان، لأنّها ترفض العودة الى الماضي بصراعاته ومآسيه.
ومن خلال هذا الرفض، يعرض الكاتب لمحات من التبدلات الديموغرافية – الطائفية التي عرفتها منطقة كسروان، من النصارى والتركمان، و”العرب” أي السّنة، و”المتاولة” أي الشيعة.
جوهر شخصية مرغريت أنّها تقلق ” من ماض اذا انفجر طالت شظاياه من لا علاقة له بما حدث”(ص٣٨).
في هذه الحبكة من ضغط الشيخ يوسف وكتمان مرغريت، ينتقل الكاتب من التاريخ الى الانتربولوجيا، ليتطرّق الى عادات الدفن في الكنيسة، وما تتداخل فيه من أعراف وعادات وتقاليد وقيم وتأثيرات خصوصا في البيئة المارونية.
يركّز على عادة الدفن في الكنائس، كأقرب مكان الى المقدّس، وهذه عادة تشمل طوائف أخرى، الا أنّها اتخذت في المدى الماروني أهمية متعددة ، لتداخل التأثيرات بين المحلي اللبناني، والسرياني الانطاكي، واللاتيني.
لا يحصر الكاتب عادات دفن الموتى في المعابد، في كنيسة مار ضوميط في زوق مكايل، بل يوسّع مداه خصوصا في عادات المدن الإيطالية في الدفن في الكاتدرائيات و “الكابيلات” الملاصقة لها، ويقارن بين الجانبين، ليعرض تشابها يتقاطع في الاقطاع وجبروته.
يتفرّد الكاتب في مؤلفه الجديد بأنّه يتحدث عن الدفن بلغة غير سوداوية، فلا يستفز القارئ الذي لا يجفل من تصفّح القصة، فيتابعها بشوق واندفاع الى اكتشاف نهاية التجاذب بين الشيخ ومرغريت ومصير البَلاطات التي طمرها الأهالي في مكان سريّ.
تغلب على الأسلوب سخرية فنيّة تجعل من قراءة كتاب ” عاميّة ١٩٠٢” ممتعة.
في كتابه الجديد، يتابع أنطوان سلامه توغله في تاريخ لبنان وصراعاته الاجتماعية، منذ القرن التاسع عشر، إن في مؤلفه “طانيوس شاهين: من منازلة الاقطاع الى عجز الثورة”(دار النهار)، أو في “قوّاص البطريرك” الذي تحدث فيه عن قصة حبّ جرت في وقفية بكركي ،ومن خلالها سرد صراع البطريرك الحويك وجمال باشا “السفّاح”، وجوع حرب ال١٤…
صحيحٌ أنّ كتاباته تدور في بيئة محددة، لكنّها تتوسّع الى صراعات طائفية واجتماعية وسياسية بقالب من السرد التاريخي حينا والقصصي في أحيان أخرى كما في “عاميّة ١٩٠٢”.