أمين قانصون ينبوع الثقافة وحارس التراث: من كفرمان إلى كل الوطن
بين الأوراق المبعثرة على الطاولة، وقلم أنهى لتوه كتابة بعض من مذكراته خلال مسيرة عمرها اكثر من ستين عاما، يجلس أمين قانصون المفكر والمثقف والاديب الذي خطّ العديد من المخطوطات الفكرية والثقافية، وجاد بالكثير مما في جعبته لطلابه، تحوطه الآنية التراثية العتيقة ومقتنيات من العصر الحجري جمعها من الحقول أثناء تنقيبه عنها في سهل "الميذنة" والجرمق.
يتنفس بعمق شديد قبل أن يقول " التراث حكاية وطن، وهوية شعب" في إشارة منه إلى أهمية الحفاظ على الهوية التراثية، تلك الهوية التي "يحاول العدو الإسرائيلي اليوم طمسها، تمهيدا لإلغائها".
لا تخلو ذاكرة قانصون من الصور الحافلة بالثورات ضد الفرنسيين وفي مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، شارك في العديد من التظاهرات الغاضبة، تضامنا مع اطفال الحجارة في فلسطين، وللقدس مكانة القلب في جسده الذي تراه إمتدادا للأرض التي أحبها. يسكن القدس كما تسكن هي العديد من قصائده النثرية، "القدس هي العروبة الجريحة، وهي الامة التي ضاع ولدها ذات تخاذل عربي" يقول قانصون وهو ينفخ دخان سيجارته ويستجمع مزيدا من الذكريات التي يرصد بها متغيرات الامة العربية، التي تعيش على فوهة بركان غيّر كل حدودها التاريخية، يتحدث قانصون عن " أحجار الشطرنج" التي تغير مصير "الأمة والملك هو الذي يغلب في كل معركة إلا إذ قرر الشعب أن ينتفض ويتحد في مواجة أزلام الشطرنج".
ينأى قانصون في هذه الأيام بنفسه عن الكثير من الأحداث الخارجية، يفرد مساحة كبيرة من وقته لمتحفه الصغير الذي أسسه في منزله بعد أن أعاد له "هويته الحجرية" ، فبعد تقاعده من مهنة التعليم والتربية، تفرغ لهوايته الاخرى " التراث والثقافة" فكلاهما وجهان لتاريخ وطن بات متخثر القوى، يستدل على الأكثير من الاحداث عبر الأسلحة الحجرية التي إستخدمها الإنسان القديم وطريقة تطور حياته " الإنسان القديم كان ذكي، يحرك غرائزه لخدمة اهدافه، يبحث، يفكر، يدخل في تجارب ليكتشف الكثير من الأحداث التي تغير حياته، تطوره بدا واضحا من خلال تطور أدواته التي إستخدمها الانسان الحجري، الذي إخترع من الحجر كل ادواته صنع السلاح الفردي وادوات الأكل وغيرها، كان ذكيا" ، هكذا يستخلص قانصون عصارة أبحاثه البسيطة عن بعض الادوات التي ضمّنها متحفه الصغير الذي يحوي أحذية خشبية، سكاكين حجرية، اسلحة من الحجر أدوات المطبخ وغيرها إضافة الى العديد من الأدوات التي لحقت بالعصر الحجري من العصر الفينيقي والروماني وهو يعتني بها " كولد من اولاده لأن كنز كبير" لا يخفي قانصو تمسكه " بالتاريخ التراثي" لأنه " مستقبل الأجيال، وهذه المقتنيات هي بداية طريق لفهم نمو المجتمعات والحضارات، وهذا الفهم يدفعنا لتحصين مستقبل أجيالنا، فالغرب أغرق مجتمعنا بوسائل حديثة أبعدت الأجيال اليوم عن القراءة وفهم مجريات ما يحصل، وهي ادوات يراد منها تفتيت المجتمعات لبناء حضارة غريبة عنّا".
يعتبر قانصون واحدا من عشرات من كبار السن الذي ذهبوا الى بناء متاحف تراثية، فالتراث بات حاجة ملحة عند الكبار، فيما الشباب لا يعنيهم الامر بشيئ، بل يذهب بعضهم للقول " ماضي وإنتهى" وهذا ما يرفضه قانصون الذي يرى " كل قطعة في متحفي هي حكاية وطن، هذا الوطن الذي يعيش في أزمات متلاحقة، فغياب التفكير العميق هو سبب الأزمات، لو نظرنا الى حقبة الأربعينات نرى أن عدة المواطن كانت من الخشب، والقصب، والتبن، وكانت تركيبة الحياة قائمة على التعاون في انجاز الأعمال، واذا إقتربنا من السبعينات دخل الراديو والتلفزيون والهاتف، وتحولت المنازل حجرية وباتت الهندسة جزء من التصميم وإن بقي بسيطا، وكان الكتاب جزء من ثورة الفكر الذي نشطت في تلك الحقبة والتي إستفاد منها الجيل أنذاك في ثوراته ضد المحتل الصهوني الغاصب" .
يمضي قانصون وقته في القرأءة وهو الذي أسس لمكتبة مهمة تحوي العديد من المخطوطات القديمة التي يعود بعضها الى العام 1770 وبعده، ويشارف على إنجاز كتابه " تراث الأمة في أنيته" ضمّنه خلاصة تجربته في البحث والتنقيب عن "التراث" الذي تنتشر أثاره داخل منزله من قبعة حديدية تعود لجندي فرنسي، وشمعدان حديدي من الحقبة العثمانية وكراسي من أغصان الشجر ومحبرة من العهد العثماني، اضافة الى حديقته التي تجسد بعضها من حياة القرية التي تعود لأربعينات القرن الماضي، كتأسيس لحضارة فكرية ثقافية يسعى قانصو أن يضع نواتها في منزله كمتحف لن تعرف الاجيال قيمته وفق قوله إلا بعد مضي زمن.
لا يخلو حديث قانصون من الأصالة الوطنية، ولا يبتعد كثيرا عن الأرض فهو يعتني بها ويزرعها ويحرثها بيديه، وهو ايضا محاور جديد يضرب مثلا واقعيا لكل حدث، تجده يقول " القلم لسان الفكر الناطق، والكتاب دستور الوطن المثقف" ويذهب أبعد من ذلك في أمثاله ليقول " البيت كالوطن كما تبنيه تخرج أبناءك" ولا ينسى أن يوجه مثله الحكيم لكل الامة العربية " العروبة كشربة مياه عذبة جفّ مصدرها".