أميركا وإسرائيل والدور المفقود (فرح موسى)
أ.د.فرح موسى- الحوار نيوز
منذ تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين،ليكون حصنًا متقدمًا للحضارة الغربية في مواجهة البربرية الشرقية،كما ذكر هرتزل في كتابه”الدولة اليهودية”،لم ينته الجدل بين أهل الفكر والسياسة حول أهمية وجود هذا الكيان،ومقدار الحاجة الاستعمارية إليه.
وكثيرًا ما كانت البحوث الاستراتيجية تتوقف عند مدى تأثير هذا الكيان في السياسات الغربية،وخصوصًا في الولايات المتحدة الأمريكية،فقال كثيرون:إن إسرائيل هي التي ترسم ملامح التحولات الغربية في المنطقة العربية والعالم،وقال آخرون:إن إسرائيل هي مجرد قاعدة عسكرية للغرب،ولها دور وظيفي لا يتجاوز حدود الحماية للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط؛وهذا ما كان ولا يزال مثار جدل عقيم بين من تسموا بالخبرة،واستأثروا بالسياسة في عالمنا العربي ،حيث لا زلنا نجد مَن يتعامل مع الكيان الصهيوني على أنه حاجة لا يمكن الاستغناء عنها لما يتميز به هذا الكيان من قوة ومكانة علمية،وخبرات تكاد تصل به إلى مستوى أن يكون دولةً عظمى كسائر الدول العظمى في العالم.
ولعلنا لا نخطىء القول بأن سياسات التطبيع في المنطقة العربية انطلقت في أجواء هذه الهوامات التي جعلت الكثيرين ممن جهلوا وظيفة هذا الكيان يعتقدون أن إسرائيل لها الحاكمية في أميركا وأوروبا ،فأخذتهم العزة بالإثم والقوة الإسرائيلية،وأبرموا اتفاقيات السلام، وكادوا بمساعيهم المذلة أن يبلغوا مستوى الظن،بل الاعتقاد بأن الزمن الإسرائيلي قد بدأ،ولا بد من اللحاق به للفوز بالمستقبل.
هذه هي سياسة الكثيرين من العرب والمسلمين إلى ما قبل الهزيمة الإسرائيلية في لبنان عام ٢٠٠٠م،إذ هزم العدو،ولاذ الأعراب بسياسة الصمت والتطبيع إلى الحد الذي يستطيعون معه ترقب الأحداث والرهان على فاعلية السياسات الغربية في مواجهة المتغيرات القاهرة.وهكذا،نجد أن عرب التطبيع لم يوفقوا في رهاناتهم بعد أن رأوا هذا الكيان الصهيوني يترهل مجددًا في العام٢٠٠٦م،وفي ما لحق به من هزائم في غزة فلسطين في حروب متعددة لم يتمكن العدو من خلالها حسم الموقف بما يخدم تطلعات أهل التطبيع،أن تكون إسرائيل أكثر قوة وحضورًا في المنطقة.
إن ما لم يستوعبه كثير من العرب والمسلمين،هو أن عوامل القوة المادية ليست هي وحدها التي تحدث التحولات الكبرى،وكان بإمكانهم أن يعتبروا بحالة الاتحاد السوفياتي التي لم تكن تنقصه قوة الردع والسلاح الاستراتيجي،وكانت نهايته التفكك والزوال.والعرب يعلمون جيدًا أن هذا الكيان لا يملك مقومات الفعل الذاتي،أو الوجود المستقل،ولولا أنهم تراخوا أمامه لما كان بإمكانه الاستمرار في الحياة إلى يومنا هذا.
ولا زلنا نجد من هؤلاء الأعراب مَن يراهن على القوة الإسرائيلية في صناعة الحدث الاستراتيجي الضامن لفاعلية التطبيع في المنطقة العربية.لقد قال الإمام الصدر في الستينات من القرن الماضي:إن إسرائيل قاعدة عسكرية للغرب،مثلها مثل سائر القواعد الأمريكية المنتشرة في بقاع العالم،وقد ألقوا على هذا الكيان الهالة اليهودية لإعطائه البعد الديني لتكون له فاعلية التأثير في محيطه على النحو الذي يمكنه من إثارة النعرات الدينية والطائفية.أما في الجوهر فهو كيان عنصري وظيفي.
وهنا يمكن لكل باحث في السياسة والاستراتيجيا أن يسأل،أين أصبحت وظيفة هذا الكيان بعد هزائمه المتتالية،وخصوصًا بعد طوفان الأقصى؟فهل وظيفته لا تزال قائمة،أم أنه خسر موقعه وأصبح عبئًا على أميركا والغرب؟
هذا هو السؤال المحوري الذي يحتاج من أهل البحث والتخصص للإجابة عليه. فإسرائيل اليوم تعاني من أزمة وجودية في بقعة جغرافية لا تكاد تذكر أو تحسب في الجغرافيا؛ولكنها في الفعالية الاستراتيجية أخرجت إسرائيل عن طورها،وجعلتها تقف أمام خوف حقيقي على الوجود.إنها غزة فلسطين التي أعجزت إسرائيل وكل من يقف خلف إسرائيل عن إحداث أي تحول من شأنه تعزيز الدور الوظيفي لهذا الكيان .وهذا ما أحدث طفرة بحثية في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها عن الدور الوظيفي والاستراتيجي لهذا الكيان.
إن ما يعايشه الشرق الاوسط وغرب آسيا من أحداث وتحولات في عوامل القوة والمقاومة لم يعد يسمح لأميركا،ولا لإسرائيل،فضلًا عن غيرهم،بالبناء على سياسات الماضي السحيق لبلورة الموقف الاستراتيجي اتجاه التعامل مع أحداث المنطقة والعالم،فكل من يستشرف أفق التحولات لا يسعه إلا ملاحظة المتغيرات الاستراتيجية،وهذا ما نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تستحضره بعد الردع الإيراني،واعترافها الصريح بالعجز عن مواجهة أحداث البحر الأحمر.فهي تشهد على نفسها أنها لم تعد لها قدرة المواجهة مع القوة اليمنية؛فكيف يمكن السؤال عن الدور الوظيفي للكيان الصهيوني؟فأميركا اليوم تقف أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما،فإما أن تختار الحرب الشاملة مع محور المقاومة.وإما أن تعترف بعجزها في فلسطين كما اعترفت بعجزها في البحر الأحمر.فإسرائيل عاجزة تمامًا عن خوض أي حرب جديدة في المنطقة،ولعله،بل يكاد يكون من اليقين أن تختار أميركا الانسحاب من الشرق الأوسط،على أمل أن تكون قد أعدّت عدتها وحساباتها أن يكون الأعراب في متناول يدها في قابل الأيام،حتى لا تكون لهم مصائر الناس في مطارات كابول أو بغداد،أو غيرها من الدول التي لم تعد لها جدوى الوظيفية في الحسابات الأمريكية،وما هو منتظر لإسرائيل لم يعد من الخرافة،أو الخيال،وإنما أصبح واقعًا يمكن تلمسه في مجريات الهزائم المتتالية لهذا الكيان.
* رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية.